“هابي ماذرس داي” هكذا يبدأ يومٌ قرّر فيه أحدهم أن يخصصه للأمهات، ويجعله مليئا بالزهور. يوم وردي جميل، نتذكّر فيه أمهاتنا، وصديقاتنا الأمهات، فنهديهن باقات زهر، أو بطاقات جميلة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، نكتب أشياء جميلة بحق أمهاتنا، ونقتبس جملا تربط الشعر والأدب والإبداعات الجميلة بمعاناة الأمهات.
إن قلت إنّ الأمومة نضال مستمر، وتضحية لا تعادلها أي تضحية أخرى في الحياة، فقد يعتبرها البعض مبالغة مني. لكن لحظة، سأختصر لكم الأمومة التي خبرتها وتقاسمتها مع أمي وأختي فيما بعد.
لا أتذكّر خاصة أيام طفولتي متى استمتعت أمي بغدائها أو عشائها أو حمّامها، أو حتى نومها. أعرف أنها كانت تتفانى في الاهتمام بنا، وتؤجّل حاجاتها الخاصة، وهذا يجعلني أرى الأمومة مهمّة جدّ صعبة، الفاشلات فيها أكثر بكثير من الناجحات.
إن كانت أمي عاملتنا بالتساوي، وحرصت أن تقسم علينا ما نأكل وما نشرب وما نحصل عليه من هدايا، وملبس ومصروف بالعدل، فإنّها لم تعامل نفسها بالعدالة نفسها أبدا. فيما بعد حين بلغت سن النضج أصبحت أطرح الأسئلة الصعبة على نفسي، هل كانت تلك تضحية بملء إرادتها أم أنها استجابة غريزية لطبيعة الأم، أم خيارًا سطّرته لنفسها وكان أمامها خيارات أخرى لم تستسغها؟
بالنسبة لامرأة داهمتها الأمومة قبل بلوغها العشرين، أي حياة عاشتها غير خدمة الآخرين؟ أمّا أكثر شيء حُرِمت منه فهو الحرية. منذ لحظة الأمومة الأولى تنازلت عن حريتها، وروّضت نفسها على التأقلم مع حريّاتنا نحن. مع خروجنا ودخولنا، ومع ما نحب ونكره، وما نشتهي. لا إيقاع لحياتها إلا بإيقاعنا نحن. ونحن بأنانية الأبناء كنّا نمصُّ كل طاقتها دون أن ندري، نبتزُّها عاطفيا كما يفعل كل الأطفال، ونفرح لتنازلاتها التي تزداد ولا تتقلّص. نكسب وتخسر، وتوهمنا أنها سعيدة لسعادتنا، ومكاسبنا هي مكاسبها، تبتسم حتى تتحوّل ابتسامتها إلى غيمة سحرية تحملنا إلى قمم الفرح، وإلى يومنا هذا يغيب عنّي جزء كبير من أحزان أمي التي أتقنت إخفاءها. في الحقيقة لا توجد أم في العالم لا تملك خزانتها السرية الخاصّة بأحزانها وخيباتها. نادرات جدًّا الأمهات اللواتي تصدمهن الأمومة فيطلقن أرجلهن للريح مثل الرجال.
يتفق الجميع على الزّج بالمرأة في حياة التزاوج هذه بأفكار مخادعة فينتهين مثل الشموع، محترقات من أجل سعادة من حولهن. أين البطولة في كل هذا؟
تنجب المرأة أبناء لزوجها من لحمها ودمها، وتسهر على تربيتهم بدموع العين،ومع هذا تبقى نكرة، هي ابنة فلان، زوجة فلان، أم فلان، وكل هؤلاء يقفزون قفزة كبيرة لتخطّيها إذا ما انتهت صلاحيتها. في الغالب يحدث هذا في المجتمعات الذكورية التي تعتقد أن الأم المسحوقة تزداد قداسة أكثر من غيرها.
تاريخياً كانت الأمومة قدراً نسائياً لا بدّ منه في أغلب الأزمنة، إذ كان عليهن أن يجتهدن ما استطعن ليحبلن من أزواجهن وينجبن الكثير من الأطفال، لاكستاب احترامٍ وهمي، مقترن بعدد مواليدهن الذكور أولا، ولا بأس من أخذ جمال بناتهن بعين الاعتبار.
سيبدو الأمر قاسياً على النساء اللواتي لم يحظين بهذه النّعمة. وهو في كل الحالات يزداد قسوة كلما سقط شرط من تلك الشروط الصعبة التي وضعتها مجتمعات اعتبرت المرأة “متاعا” لملء بيت الرجل وخدمته.
من هنا اختلطت مفاهيم النساء تجاه فكرة الزواج، والحب، والإنجاب، ولا أدري إن كان الثمن الذي دفعنه باهظا، مقارنة مع خساراتهن التي يكتشفنها تباعا مع العمر. لم تُبنَ فكرة الزواج على المودّة والرّحمة مثلما قالت الكتب السماوية، لقد وجدت مجتمعاتنا أسبابا مختلفة لعقد الزيجات وتشجيع الإنجاب، بدءا بالحفاظ على الجنس البشري، إلى توفير يد عاملة للزراعة على الخصوص دون تكلفة، إلى تغذية الجيوش بالمقاتلين، وغيرها من الأسباب التي لا تعدُّ ولا تُحصى.
أمّا المرأة فلم تكن بحاجة لكثير من الجهد لإقناعها بالزواج، فالأمر مرات مرتبط بإطعامها وحمايتها، وأخرى بعقد صفقات من أجل الحصول على مكاسب وأملاك، لكن الأغرب ارتباط مفهوم الحماية أو السُّترة بخطورة بقاء النّساء عازبات في بيوت آبائهن العاجزين عن حمايتهن من الأخطار المحدقة بهن كلما تقدّم بهن السن، مما وجب تدبُّر الأمر وتسليم الواحدة منهن لرجل آخر غير الوالد لتولِّي تلك المهمة مقابل عدد من الخدمات التي توفّرها. ثمّة دائما من يسوّق لهذه الأفكار بنجاح كبير، تماما كما سُيِّست فكرة الأمومة لإنجاب الجيوش للقتال، والتضحية بأبنائهن من أجل الأهداف السامية للأوطان.
وفي حقبات عديدة تساوت السيدات والمحظيات والمملوكات، عشن في الهامش الذي لا يصله الضوء، حتى أسماؤهن لم تكن معروفة، كن يقمن بأدوار مختلفة لكنها كلها تصب لتلبية رغبات الرجال، ولم تحدث الانتفاضة على هذا الوضع إلاّ في أواخر القرن الماضي، ولكنّها لم تكتمل بعد، إذ لم يكن سهلاً أن تستعيد المرأة جسدها، وتحرره من قبضة موروث هائل من العادات والتقاليد والمفاهيم التي تكرّس عبوديتها، وتورطها في عذابات إضافية.
الجديد عربياً هي هذه الأصوات التي تتزايد مُصِرّة أن الأمومة خيار لا إجبار فيه، وأنّها لا تناقض الواقع البيولوجي الذي أصبح التحكم فيه يُسَهّل حياة النساء، فقد تنوّعت وسائل منع الحمل، كما تم ابتكار بنوك للحفاظ على بويضات المرأة لمنحها فرصا أطول لممارسة أمومتها دون تسرع بالإرتماء في حضن أي زوج والسلام.
إن كانت الأمومة تكبِّل المرأة على الأقل لمدة تفوق العشر سنوات، فعلى المرأة أن تراجع نفسها جيداً، وتقيس حجم طموحاتها قبل دخول المغامرة، فالأمومة تزاحم طموحات المرأة، وتجعلها تقف أمام خيارات صعبة، وكلما زاد عدد أطفالها، استحالت إمكانية تحقيق ذاتها، إلاّ إذا بذلك جهدا مضاعفا قد يجعلها تنهار قبل تحقيق ما تريد.
فرجينيا وولف، كاثرين مانسفيلد، وسيمون دي بوفوار لم ينجبن أطفالاً، توني موريسون أنجبت طفلين وقد تأخرت لتنشر أول عمل لها حتى بلغت الأربعين، بينيلوب فيتزجيرالد أنجبت ثلاثة أطفال نشرت أول أعمالها وهي في الستين.
أنجيلا مريكل لم تنجب أطفالا، نتقبّل ذلك لأنّها في نظرنا سيّرت دولة عظيمة وتميزت في إدارتها لها، بالمقابل أثارت رشيدة داتي ضجّة كبرى عالميا حين قرّرت أن تمارس أمومتها دون معرفة من الأب، نصف العالم أصبح يتحدّث كما لو أنّه وليّ أمرها، لكنّ السيدة التي حقّقت كل ما تريد، كانت في موقع سلطة، وتعيش في بلد القانون، فلا حجارة سترجمها، ولا ألسنة الناس ستغيّر من قرارها، وفوق ذلك هي غادرت المجتمع الذي يتبجح ب “السُّترة الذكورية” التي تنقذ شرف المرأة إن أخطأت.
ربما حان الوقت لتجريد الأمومة من هذه القدسيّة الكاذبة، كون الاحتفاء بها جاء كمواساة للأمهات اللواتي فقدن أبناءهن في الحروب، وهنّ اللواتي غذّين هذه الحروب بفلذات أكبادهن دون دراية بما قد يحلُّ بهن.
فما الذي يعوّض الأم في خسران أولادها؟ سواء أكلتهم الحروب أو المنافي، أو أُسَرِهم وأشغالهم وانشغالاتهم؟ وسام وعلم الوطن؟ أو باقة ورد؟ أو شال لكتفيها؟ أو قطعة مجوهرات؟
لا شيء يعوّض كل لحظة ثمينة ذهبت دون رجعة أنفقتها الأمهات الحقيقيات على أبنائهن.