من المعروف للقاصي والداني أن مصر كبلد قديم، في تراثها كل ما عرفته الأمم بعدها وما لم تعرف بعد كأسرار التحنيط وبناء الاهرامات. وفي مجال العمل والعمال شهدت مصر أول إضراب عمالي في التاريخ دوّن على جدران المعابد الفرعونية حيث امتنع عمال بناء الاهرامات قبل أكثر من خمسة آلاف عام، وحسب معتقدات ذلك الزمان كانوا يبنون بيت الإله، ومع ذلك أضربوا عن العمل لقلة الأجرة، التي كانت كان زيتاً وقديداً (خبزاً مجففاً)، ولما وصل الامر لفرعون ذلك الزمان قال قولته الخالدة: “كيف يعمل العمال وبطونهم خاوية؟”، وأمر بزيادة حصصهم من الزيت والقديد.
توالت العصور وشهدت مصر عصوراً من النهضة والتقدم وأخرى من الإضمحلال والتخلف، وفي التاريخ الحديث حدثت نهضة صناعية أيام حكم محمد علي، وتواكب معها نشوء طبقة عمالية، وما أن جاءت ثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبدالناصر حتى حدثت طفرة نتيجة التأميم ومعارك التنمية وبناء 1200 مصنع ساهمت في بلورة طبقة عاملة لم تكن موجودة أصلاً، ونتيجة توجهات الثورة المنحازة اجتماعياً للعمال والفلاحين (قوى الشعب العاملة)، وللأغلبية الساحقة من الشعب حصل تطور نوعي في علاقات ونظم وتشريعات العمل، حيث حصل العمال على حقوق ومكتسبات حرموا منها في الماضي بدءاً من حق العمل ذاته، وإعمال مبدأ تكافؤ الفرص وإعلاء شأن وقيمة العمل، وأيضاً إعطاء العاملين حقوقهم في التأمين الاجتماعي والصحي، وكذا إشراكهم في إدارة منشآتهم بإعطاء حق التمثيل في مجالس إدارات الجمعيات الزراعية لإدارة شىون الزراعة، كما نصّ الدستور على تمثيل العمال والفلاحين في جميع المجالس المنتخبة، شعبية ونيابية ومجالس محلية، بما لا يقل عن 5% من عضوية أي مجلس.
وفي ظل هذا التوجه الثوري نشأ الاتحاد العام لعمال مصر، بدعمٍ من الدولة المنحازة أصلاً للعمال والفلاحين، فانصبّ دوره على تأييد هذه المكتسبات والدفاع عنها، لكن بعد الارتداد عن خط ثورة 23 يوليو وبعد أن أدارت السلطة ظهرها للعمال والفلاحين وتبنت المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال وذلك منذ صدور قانون استثمار رأس المال العربي والأجنبي قانون 43 لسنة 1974 المعروف باسم الانفتاح الاقتصادي، أصبح هذا الاتحاد مسانداً للتوجهات المرتدة عن خط الثورة ومنها تصفية وبيع القطاع العام وإقامة العلاقات مع العدو الصهيوني.
ظلّ العمال بلا تنظيم يدافع عنهم فكانوا يواجهون سحب مكتسباتهم التي حصلوا عليها بالاضراب، وكانت الاضرابات التي وصلت إلى معدلات غير مسبوقة، قبل رحيل مبارك، بل كانت من أهم أسباب التعجيل بالرحيل، وتمت هذه الاضرابات خارج إطار التنظيم النقابي الرسمي، بل كان الشغل الشاغل للتنظيم النقابي الرسمي هو كيفية إجهاض هذه الإضرابات.
في هذه الأثناء نشأت فكرة التنظيم النقابي المستقل، وشهدت مصر قيام أول نقابة مستقلة باسم “نقابة العاملين بالضرائب العقارية المستقلة”، والتي نشأت من رحم إضراب ناجح حقق كل مطالبه الاقتصادية وانتقل إلى تحقيق مكسب ديمقراطي وهو حق إنشاء النقابة المستقلة، وأودع أوراقه بوزارة القوى العاملة في أول عام 2009، أي قبل رحيل مبارك ونظامه.
وتوالت عملية إنشاء النقابات المستقلة ووصل عدد المؤسسين لنقابات مستقلة في مصر لما يقارب من أربعة أضعاف عضوية التنظيم الرسمي، وأُنشىء الاتحاد المصري للنقابات المستقلة والذي ضمّ مليونين وأربعمائة ألف عامل ونشأ على ضفافه وخارجه لجان نقابية يصل عدد أعضاءها إلى مليوني عضو، ونشأت هذ النقابات في قطاعات لم يدخلها التنظيم الرسمي أصلاً وفي أماكن جغرافية نائية كانت بعيدة عن كل الأيادي في سيناء ومطروح والوادي الجديد وأسوان وغيرها وشملت جميع مناطق الجمهورية وأيضاً جميع قطاعات العمال، وبينها قوى عمالية لم يسبق لها الانضمام إلى أي تنظيم نقابي.
شارك النقابيون في هده التنظيمات النقابية المستقلة في ثورة 23 يناير، كما شاركوا في ثورة 30 يونيو التي اسقطت نظام الإخوان، وليس أدل على مشاركتهم في الثورتين من اختيار وزير القوى العاملة بعد ثورة 25 يناير من بين الداعيين للحرية النقابية وهو الدكتور أحمد حسن البرعي، وأيضاً بعد ثورة 30 يونيو وفي أول حكومة بعد إزاحة الإخوان أصبح كاتب هذه السطور وزيراً للقوى العاملة والهجرة.
لقد انتزعنا في ظل هذا الحراك الثوري حق إنشاء النقابات المستقلة استناداً للاتفاقات الدولية التي وقعت عليها مصر واستناداً للدستور المصري الذي أضفنا إليه المادة 76 التي تنص على حق انشاء التنظيم النقابي وتضمن الدولة ذات الأمر، وهي مكاسب يجب العودة إليها والتمسك بها، والدفاع عن حقوق العمال ورفض برنامج صندوق التقد الدولي، الذي أدى ذلك إلى تصفية صناعات أساسية واستراتيجية، كالحديد والصلب والأسمنت وغيرها، مما يؤدي إلى زيادة عدد العاطلين.