يشكّل التنظيم النقابي إحدى أساسات ودعائم المجتمع المدني، فمن خلاله يمكن للأفراد المهنيين تنظيم ذواتهم للدفاع عن مصالحهم المشتركة، وبلورة رؤى استراتيجية تجاه الإصلاح والتطوير المهني، والتغلب على سائر العوائق التي تواجه مهنتهم، ويتوصل المهنيون إلى تنظيم ذواتهم عبر انتخاب أعضاء لمجالس النقابات والإتحادات، من متطوعين يقومون بدورهم بتمثيل أعضاء الهيئة العامة التي تعدّ ركيزتها المهنيون، وبالتالي يقع على مسؤولياتهم نقل الآمال والآلام، والطموح والمعاناة للمهنيين، في مقابل تحقيق الرضا والقبول المهني بما يتلاءم مع الكرامة الإنسانية.
لقد نشط التنظيم النقابي في فلسطين عقب الاحتلال الاسرائيلي عام 1948، وجاء مصاحبا لمعاناة الهجرة واللجوء إلى مناطق غزة والضفة الغربية، حيث أخذ زخماً تنظيمياً متحدياً المعاناة والإحتلال الاسرائيلي، في خطين متوازيين: الإصلاح المهني، والعمل التحرري من قيد الإحتلال، وأُعيد تنشيط التنظيم النقابي للمرة الثانية عقب إعلان المبادئ في أوسلو ما بين منظمة التحرير الفلسطينية، والاحتلال الاسرائيلي عام 1993، من أجل قيام الحكم الذاتي في مناطق غزة والضفة الغربية، حيث قامت من بعد السلطة الفلسطينية بمؤسساتها، متحملة مسؤولياتها تجاه الشعب الفلسطيني كسلطة حاكمة، وتزامن مع قيام مؤسسات السلطة حركة نشطة للنقابات والاتحادات المهنية، ابتداء من تشكيلهم وفقاً لقاعدة الانتخابات الحرة لتفويض ممثلين “أعضاء مجلس النقابات والاتحادات” يقومون بكافة المسائل المتعلقة بالتنظيم النقابي .
لكن الحق أنه كانت هناك مسائل متعلقة بالتنظيم النقابي خلاف التطوير المهني، والدفاع عن المصالح المشتركة، وعقد الاتفاقيات التي من شأنها تدعيم الرضا والقبول المهني، فقد كانت هناك مسائل تشكل معوقات واخفاقات تجاه التنظيم النقابي في فلسطين.
يتصدر الاحتلال الاسرائيلي كافة المعيقات بجدارة، حيث انه رغم قيام الحكم الذاتي في مناطق غزة والضفة الغربية، إلا أنه يعود لممارسة وظائفه كمحتل ما بين الفينة والاخرى، ومن شأن ذلك تشكيل حائل صلب امام طموح وأمال التنظيم النقابي مثل عقد الاجتماعات الدورية للهيئة العامة مع أعضاء الجسم النقابي “الهيئة العامة”، من أجل تقييم ومناقشة مسائل متعلقة بالعمل النقابي والتطوير المهني، ويعيق إجراء انتخابات حرة ودورية لتجديد او تغيير أعضاء مجلس النقابات والاتحادات.
ويأتي في الدرجة الثانية غياب الإطار القانوني الذي يحدد مسئوليات وواجبات النقابات والاتحادات، بالإضافة إلى توضيح آليات عملهم ، فلا زال مشروع قانون النقابات قيد المداولة والمناقشة بين ملفات المجلس التشريعي، هذا فضلاً عن غياب النظم واللوائح الداخلية لبعض النقابات، أو اقتصارها على أعضاء مجلس النقابات والإتحادات، بحيث يكون هناك تجهيل مقصود لكافة أعضاء الهيئة العامة، وبالدرجة الثالثة والأخيرة، يأتي سوء أداء أعضاء مجلس النقابات والاتحادات أنفسهم كمعيق أمام الحركة النقابية، مستغلين قيود الاحتلال الإسرائيلي كمبرر، هذا بالإضافة إلى تحوّل بعضهم الى أباطرة من أجل جلب المال عبر جمع الاشتراكات السنوية من أعضاء الهيئة العامة، وطلب المساعدات والمنح المالية من مؤسسات المجتمع المدني الآخرى دونما تحقيق أدنى نشاط نقابي أو تطوير مهني.
في الوجه الآخر شكّل النشاط السياسي تحدياً أمام تقدم وتطوّر الأداء للتنظيم النقابي، فرغم أن التاريخ سجل أحداثاً هامة للتنظيم النقابي لمقارعة الاحتلال الاسرائيلي قبل المرحلة المفصلية لأوسلو 1993، وفقا لقاعدة التوازن ما بين النشاط السياسي والتطوير المهني، إلا أن الحال أصبح مختلفاً عقب أوسلو، فقد تمّ اعتماد النقابات والإتحادات كمؤشر لقياس الرصيد السياسي للأحزاب والحركات الفلسطينية، عند شرائح المهنيين، وبالتالي أن تحتكر كل حركة او حزب سياسي رصيداً نخبوياً تكنوقراطياً من الشعب الفلسطيني، وبالتالي تحولت النقابات والاتحادات، إلى حلبة صراع وتنافس سياسي، مما جعل المفاضلة والمنافسة ما بين الشخوص والقوائم الإنتخابية لأعضاء مجلس النقابات والاتحادات، تعتمد على المفاضلة السياسية للمهنيين، بعيدا عن مفاضلة مصالحهم المهنية مقابل لونهم السياسي، ودخلت السلطة الفلسطينية حلبة الصراع السياسي، عبر استدراج بعض النقابيين لتولي مناصب ووظائف ادارية للوقوف أمام مطالب أعضاء الهيئة العامة للنقابات والإتحادات.
وقوفاً على الرصيف المعاكس للمعيقات والتحديات أمام الأداء النقابي في فلسطين، هل ثمة رؤية إصلاحية لنقل النقابات والاتحادات صوب المسير الصحيح، والذي يسير جنباً الى جنب مع آمال وطموح ومطالب المهنيين العاملين في فلسطين، لقد اعتمد أعضاء مجالس النقابات والاتحادات على خبراتهم وتجاربهم الشخصية، حيال إدارة المهام الرئيسية لوظائفهم النقابية، الأمر الذي يتطلب إقامة مشاريع تدريبية وتثقيفية من جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني، بحيث تتعلق بخطوط علمية لقيادة وإدارة النقابات والاتحادات، وكيفية سبل المفاوضات وعقد الاتفاقيات ، ووسائل الاتصال ، وألية التخطيط الاستراتيجي ، والتي حتما ستصب في التطوير المهني لاحقاً.
كما يتوجب عليهم مناقشة القوانين النقابية وتعديلها بما يتوائم مع المصالح المهنية، والخروج بقانون نقابي يتلائم مع كافة المهن، دون إلحاق الإجحاف بمهنة على حساب أخرى، ويراعي خصوصية كل مهنة على حدة، ولما كان هناك تناقض ما بين الوظائف الإدارية الحكومية مع مطالب ومصالح النقابات والإتحادات، فإن ذلك يتطلب تنازلاً طوعياً واختيارياً من أعضاء مجالس النقابات والاتحادات، اذا ما تأكد هذا التناقض بدعمه للوقوف في وجه مطالب النقابات والإتحادات، أو يشترط مسبقاً على المرشحين لعضوية المجلس عدم الجمع ما بين المناصب الإدارية في وزارات السلطة الفلسطينية، والتطوع النقابي، وذلك يكفل عدم التضحية بطموح ومطالب المهنيون على مذبح الجور الحكومي.
أما حيال التشكيل النقابي والإتحادي المهني، يجب أن يخضع لانتخابات حرة ونزيهة ودورية، بشكل يكفل التغيير والتجديد للممثلين النقابيين، كما أن مبدأ التمثيل النسبي يجب ان يتوازن مع الثقل العددي لسكان المحافظات، بحيث يتزايد عدد المهنيين كلما زاد عدد سكان المحافظة، ويجب أن يكفل مجلس النقابات والاتحادات السبل لحصول المهنيين على وظائف وفرص عمل متساوية، بعيدا عن وسائل الفساد والمحسوبية، والواسطة، والعمل كذلك على زيادة فرص العمل من خلال عقد الدورات التخصصية في المهنة الواحدة، وأخيراً من لا يحترم ويتقيد بالأخلاق النقابية المهنية من أعضاء مجالس النقابات والاتحادات وأعضاء الهيئة العامة يقع تحت طائل المسؤولية والمخالفات، وبالتالي يتم عرضه على مجلس ضبط” المجلس التأديبي”، لتقييم المخالفات وأدوات الردع اللازمة .