ملامح من تاريخ الحركة النقابية في تونس
برزت الأنشطة النقابية في تونس منذ مطلع القرن العشرين وتطورت تدريجيًا في العشرينيات والثلاثينيات. ثم اشتد عودها بعد الحرب العالمية الثانية وتوسعت قاعدتها مع تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل، وأسهمت الحركة النقابية بعد الاستقلال سنة 1956 في بناء الدولة الوطنية وفي الدفاع عن البديل الاجتماعي والتضامني كما أسهمت في إرساء الانتقال الديمقراطي.
*الحركة النقابية من الجذور إلى تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل
تأسست أول النقابات التي انخرط فيها العمال التونسيون في القطاعات الصناعي،ة وكانت المبادرة بيد العمال الأوروبيين، جدّ أول إضراب نقابي مطلبي في تونس يوم 8 سبتمبر1900 وفي غرة مايو 1904 تمّ أول احتفال باليوم العالمي للعمال.
ومباشرة بعد الحرب العالمية الأولى عرفت البلاد التونسية أولى محاولات التأسيس المستقل للعمل النقابي،وهي تجربة قصيرة دامت سبعة أشهر، وكانت البداية بسلسلة من الإضرابات تتوجت بتأسيس نقابات مستقلة وآلت إلى ميلاد منظمة جامعة عموم العملة التونسية التي تأسست في 3 ديسمبر 1924 على يد محمد علي الحامي الذي أكمل تعليمه بألمانيا في جامعة برلين، وقد تعرض القادة إلى محاكمات جائرة في نوفمبر 1925 أسفرت عن نفي الحامي ورفاقه خارج البلاد. تمت الدعوة بعد سنة 1936إلى إحياء تجربة العشرينيات وتم في 27 جوان 1937 تأسيس جامعة عموم العملة الثانية وتولى أمانتها العامة بلقاسم القناوي الذي انتهج سياسة مستقلة عن الحزب الحر الدستوري ولم تعمر التجربة طويلا فآلت إلى التشرذم.
استفاد العمال التونسيون كثيرًا من احتكاكهم بالنقابيين الأوروبيين وخاصة من نقابة CGT الكنفدرالية العامة للشغل التي تكوّن فيها الزعيمان فرحات حشاد والحبيب عاشورالذين كانا لهما دور كبير في تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل بعيد الحرب العالمية الثانية، وتمّ تأسيس النقابات المستقلة بالجنوب أواخر سنة 1944 ثم النقابات بالشمال، وتمت استمالة الجمعية التونسيين للموظفين واكتمل التأسيس في مطلع شهر جانفي 1946 وقد بلغ عدد المنخرطين بالاتحاد عشيّة التأسيس 12000 منخرطا.
* التلازم بين النضال الاجتماعي والسياسي 1946-1956
كان تأسيس الاتحاد في 20 جانفي 1946 منعرجًا حاسمًا في خطّ سير النضال الاجتماعي للشغيلة وللحركة الوطنية. كان الزعيم حشاد يربط بين النضال الاجتماعي والمسألة الوطنية وقد تمكّن الاتحاد بعد سنة وحيدة من تأسيسه من تكوين 250 نقابة أساسية ومن جذب خمسة وثمانين ألف منخرط وكانت الحركة الإضرابية إلى جانب الدعاية والتحريضمن أكبر وسائل النّضال.
أسهمت الحركة النقابية في معركة التحرر الوطني وقدّمت الشهداء في معركة 5 أوت 1947 بصفاقس وفي أحداث النفيضة في نوفمبر 1950 وفي الحركة الاضرابية وفي تدعيم الكفاح المسلح سنوات 1952 -1954 عبر توفير الدعم اللوجستي، كما أسهمت في تدويل القضية التونسية خاصة بعد الانضمام إلى السيزل فقد قام حشّاد بالدعاية وكسب المناصرة العالمية لتونس بزياراته المتكرّرة لبروكسل وواشنطن ونيويورك.
سنة 1952 نُفي أغلب زعماء الحركة الوطنية، فقام النقابيون بسد الفراغ لمقاومة التسلط وكان فرحات حشاد زعيما للحراك النقابي والسياسي ممّا تسبب في اغتياله الأسيف يوم 5 ديسمبر 1952 من قبل السلطات الاستعمارية، وواصلت المنظمة تمتين دائرة علاقاتها في المحيط االعربي والدولي ونالت التعاطف الواسع إثر اغتيال حشاد فكانت ورقة كبيرة لكسب التعاطف مع القضية الوطنية. شاركت المنظمة النقابية في السّير نحو الاستقلال (20 مارس 1956).
*إسهامات الحركة النقابية للشغل في بناء دولة الاستقلال
تم المضي بعيد الاستقلال نحو الوحدة التنظيمية وذلك بحل نقابة الاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي نفسها طوعًا وكانت تأسست في أكتوبر 1946 وكانت قريبة من الحزب الشيوعي التونسي وقامت بوضع مناضليها ومقراتها على ذمة الاتحاد العام التونسي للشغل وانصهرت ضمنه.
أسهم الاتحاد في الحكم وفي المجلس القومي التأسيسي وحاول فرض برنامجه أيضًا في المشروع التربوي والثقافي وتراوحت العلاقة مع الرئيس الحبيب بورقيبة من التحالف الاختياري إلى تحالف اضطراري تحول إلى تبعية مفروضة ندّد بها الزعيم أحمد التليلي الذي طالب بالديمقراطية لتسيير البلاد. انخرط النقابيون في مسار نضالي دام ثلاثة عقود من أجل الاستقلالية فتم الزج بالقيادات وخاصة الحبيب عاشور في أتون معركة الاستقلالية خاصة سنوات 1865 و1978 و1985.
وتعتبر أحداث 1978 هي الأعنف في خضم معركة الاستقلالية فقد شهد يوم الخميس 26 جانفي حملات اعتقالات واسعة وتمّ إلقاء القبض على أغلب القيادات الشرعية للاتحاد وفي مقدمتهم الأمين العام الحبيب عاشور وتنصيب قيادة نقابية موالية للحكومة، الذي حوكم هو وأغلب القياديين كما تمت محاكمة أكثر من 200 نقابي من قفصة وصفاقس وسوسة ومات المناضلان حسين الكوكي وسعيد قاقي تحت التعذيب.
*الحركة النقابية زمن حكم زين العابدين بن علي (1987-2010)
حصلت الحركة النقابية على بعض المكاسب مثل الزيادة في الأجر الأدنى الصناعي والفلاحي ومقاومة نسبية للتشغيل الهش والخصخصة، لكنها لم تنجح قيادات الاتحاد في حماية البلاد من تسلّط حكم الرئيس بن علي وفي تحسين آليات التسيير الديمقراطي داخل المنظمة، رغم خوض الهياكل الوسطى والقاعدية للاتحاد عدة معارك مطلبية كما قامت الاتحادات الجهوية بتحركات نضالية من أشهرها مساندة الحراك الاحتجاجي في المناجم سنة 2008.
*الحركة النقابية والمتغيرات الجديدة بعد 14 جانفي 2011
تمكّن الإتحاد من تحقيق عدّة مكاسب ساهمت في ترسيخ الانتقال الديمقراطي وإنقاذ جهاز الدولة من الفوضى والبلاد من آفة التطرف والاحتراب الداخلي، وقد توفّق عموما في لعب دور القوة التعديلية إزاء الشطط السياسي والاجتماعي فحاول الحدّ من بعض الممارسات التسلطية لحكومة “الترويكا” التي كانت تسيطر عليها حركة النهضة المتبنية لمشروع الإسلام السياسي.
حدث المنعرج الخطير في هجومات 4 ديسمبر 2012 الذي تمّت فيها مهاجمة المقرّ المركزي للاتحاد وتعنيف النقابيين عشية إحياء ذكرى اغتيال الزعيم حشاد، كما لعب الاتحاد دوره المتوازن إثر اغتيال زعيم الجبهة الشعبية شكري بلعيد في 6 فيفري 2013 فقد قام بالتنديد بالعنف السياسي وبإعلان المساندة والإضرابات ولمّا تكرّر اغتيال زعيم التيّار الشعبي محمد البراهمي في 25 جويلية 2013 تحت حكومة الترويكا الثانية تبيّن لقيادة الاتحاد إن البلاد أصبحت محتاجة إلى سياسة وفاق وطني وقد تمّ الخروج من المأزق عبر الحوار بمبادرة من الاتحاد العام التونسي للشغل ومعه منظمة الأعراف ورابطة حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين وعرفوا باسم «الرباعي الراعي للحوار» وانتهت المرحلة بتعيين حكومة مؤقتة وإعلان الدستور في 27 جانفي 2014 والدعوة الى تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية. تتوجت المرحلة رمزياً بحصول الاتحاد آخرَ سنة 2015 بجائزة نوبل للسلام ضمن الرباعي المذكور.
كان دور الحركة النقابية مركزياً في تجنيب البلاد مزيد التجاذبات والصراعات، ويلعب الإتحاد التونسي للشغل رغم بعض التناقضات التي تشقه ورغم وجود تعددية نقابية منافسة أدوارًا هامة على صعيد القضية الاجتماعية والانحيازللفئات الشعبية وقضية الديمقراطية وقيم الحرية.