من وحي أمسية بلقيس حميد حسن في “التقدمي”

0
134

حياة حافلة بالتجارب الصعبة فاض بها الشعر وضاقت عليه

حين تذهب لحضور أمسية شعرية، فهل ستستمع للشعر وحده؟ هكذا وجدتني أتساءل بعد ان خرجت من قاعة المنبر التقدمي بمدينة عيسى مساء الأحد 27 مارس الماضي، يوم إقامة أمسية الشاعرة العراقية بلقيس حميد حسن، إذ لم يشدّني الشعر وحده  بقدر ما شدّني عمق وغزارة التجربة الحياتية التي عاشتها الشاعرة. سواء في  وطنها الأم العراق، ثم في بيروت وسوريا، وأخيراً في هولندا محل اقامتها الحالي.

تقول بلقيس: “حين تتعرف على ثقافة أخرى وعلى شعوب أخرى، فإن ذلك يعلمك الكثير. ويصقل مهاراتك الحياتية، ويزيد معرفتك بنفسك”.

في سوريا ولبنان، عاشت التمزق والتشردم. في بيروت الغربية التي تعد هي عاصمة العالم آنذاك، وفي منطقة الفاكهاني تحديداً الذي كان يعتبر عاصمة بيروت. حينها كانت بلقيس شابة صغيرة لا تتجاوز الثامنة عشرة. كانت للتو تكتشف الحياة خارج وطنها الأم. وفي بيروت وبالعمل مع فصائل حركات التحررعاشت الوجعين الفلسطيني واللبناني، تعلمت كثيرا من تلك التجارب المؤلمة.  كان عملها مسؤولة شؤون الجرحى. تذهب كل يوم الى المستشفيات تتفقد الجرحى، وتعود لمكتبها لتكتب تقريراً عن حالاتهم، وتتواصل مع أطبائهم.

تأثرتْ جدا بحالة الشاب ناجي، الذي فتح الدبابة لتنفجر بوجهه، وتسبب له تشوّهات بالغة في الوجه.  ويومها جزمت أن هذا الشاب لن يعيش مجددا لكنها كانت تعوده كل يوم وترعاه. فكان أن تحسنت حالته وتماثل للشفاء. حينها كشف عن روحه المرحة، فهو يتذكر قول والدته دائما: (“روح يا ابني الله يفتحها بوجهك”، وانا الله فتح بوجهي دبابة)، كان يضحك. هنا تعاود الحياة وتنتصر على ألمك. تحوّل الألم إلى سخرية لاذعة، فكيف لا تتعلم كل يوم من هذه الجروح.

ونموذج آخر للشاب الذي جاء من رام الله: كان يتحدث عن رام الله وأشجار البرتقال، وحين سألته: منذ متى لم تر أهلك؟ أجابها: منذ تسع سنين.

اصابت بلقيس الدهشة والإستغراب، وقالت لنفسها آنذاك: “كيف لي أن لا أرى أهلي لتسع سنوات؟ كيف لي أن لا أرى أمي لتسع سنوات؟ ولكن بعد ان امتدت بي سنوات الغربة، توفيت أمي وانا بالغربة وابتعدت عن وطني 30 عاماً”.

وحين عادت إلى وطنها وجدت الكبار توفوا، والصغار لا يعرفونها.

ما ميّز بيروت في الثمانينيات، أيام تأجج حركات التحرر العربية، أنها كانت تجمع لشباب متحمس ثوري من جميع الدول العربية مثل مصر، اليمن، السودان، العراق،وغيرها، وكان كل هؤلاء الشباب يشاركون في المناسبات الوطنية بقصيدة، أو خاطرة أو كلمة. كان الجميع من الشباب وطلاب الجامعة. تلك فترة شكّلتها وشكّلت شخصيتها.

بلقيس الشخصية الوطنية الشاعرة والروائية التي عركتها الغربة والحياة  وتعلمت منها الكثير، تمزج  في كتاباتها بين اهتمامها السياسي  وفكرها التقدمي، وبين كتابة الشعر. لكنها بعد الشعر اتجهت لكتابة الرواية، والسبب كما توضحه أن الكم الهائل الذي عايشته  من التجارب الإنسانية من الصعب أن يختزله قالب شعري، لذلك كتبت الرواية. ومن هنا كتبت رواية “الموناليزا” والتي نفذت خلال ثلاثة شهور.

تجربة هولندا

بعد تجربة العيش في سوريا ولبنان هاجرت في العام 1994 إلى هولندا. وهناك بدأت تجربة أخرى. في هولندا انبهرت بالنظام، والجمال، و حقوق الإنسان. وأصبحت تقارن ذلك بين بلدها، والدول العربية عامة وتقول لماذا لايكون في بلادنا مثل هذا النظام؟. “أنت تحب لبلدك لذلك تتمنى لو أن مثل ذلك النظام يكون أيضاً موجودا في بلدك”.

في  هولندا نشطت في مجال حقوق الإنسان، وحاولت أن تقدم شيئاً لمساعدة وطنها من خلال التظاهرات والمطالبات الإنسانية، “لكنك في الأخير تبقى في هولندا؟ مهما كان ماذا أستطيع أن أقدّم هنا إلى العراق وأنا هنا”.

على الصعيد الأدبي، تقول بلقيس: “احتفت بي هولندا احتفاءاً كبيراً، تكريم واحتفاء لم اجده بنفس الشكل والحجم في بلدي. لقد أقاموا لي العديد من الأمسيات الشعرية، في المكتبات والبلديات، والكنائس، حتى بلغت عدد الأمسيات مائة أمسية”.

في هولندا تحدثت الى الهولنديين عن المآسي الذي كان يعيشها الشعب العراقي أيام حكم صدام. وتروي حادثة بشعة، كيف أن الناس كانت  تفرم في ماكنات اللحم، مما يضطر اهل المحكوم  عليهم بالفرم أن يطلبوا من الشرطي ان يضع ابنهم من رأسه لا من رجليه كي لا يتعذب أكثر. استغرب واستنكر الهولنديون ذلك. إنه فعلاً وحقاً انتهاك صارخ للإنسانية ولحق الإنسان في الحياة الذي منحها الله لنا”.

وفي مداخلة لأحد الحضور الذي عبر فيها عن استغرابه ودهشته: لأحد السياسين اللذين عاشوا في أوربا ، وقدم له البلد الذي عاش فيه أكثر ما قدم له وطنه، ولكنه في نهاية المطاف قال إنه لا يريد أن يلامس جسده تراب تلك الأرض، أليس في هذا نكراناً للجميل؟

أما أن تكون بلقيس شاعرة فهذا ليس بمستغرب، وهي التي جاءت من بلدة سوق الشيوخ التي تضمّ العديد من  الشعراء والأدباء. فوالدها هو الشاعر عبدالحميد ورجل دين وشاعر متمرد، و خالها هو الشاعر حسون البحراني. وكان والدها يُحفظهم أبياتاً من ألفية ابن مالك. وكانت الأحاديث في بيتهم تدار شعراً بين والدها ووالدتها. وبين والدها وأخواتها، وكانت تحفظ العديد من الأبيات الشعرية وهي طفلة صغيرة، نشأت في بيت  يضمّ مكتبة بثلاثة آلاف كتاب. وتتذكر بلقيس أن والدها يأخذها معه الى المقهى وهي طفلة فتقف على الطاولة وتلقي الشعر الذي تحفظه.

استمتعت بالشعر وبالتعرف على التجربة الحياتية الغنية للشاعرة بلقيس. نحن كلنا مثل بلقيس نهفو ونتطلع لأن تكون أوطاننا ومسقط رؤوسنا دولاً معززة بنظام يحترم حقوق الإنسان، ليعيش فيها الإنسان كريماً مرفوع الرأس.