من وحي المناظرة الفرنسيّة

0
80

على مدى ساعتين وخمسين دقيقة تابع مشاهدو المناظرة التاريخية بين  الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون  ومرشحة اليمين المتطرف الفرنسي مارلين لوبان، ليتعرفوا على كل ما يحتاجه متابع عن الواقع الفرنسي اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، علاوة على تفاصيل مهمة حول السياسة الخارجية التي يعتزم كلا المرشحان انتهاجها حال تمكنه من الفوز  بمقعد الرئاسة، وبطبيعة الحال فإن هذا  المقال سينشر بعد إعلان نتائج الانتخابات الفرنسية التي نحن بصدد الحديث حول بعض إضاءاتها وما تعنيه لنا كمتابعين.


فحملات الترشح لتلك الإنتخابات في حدّ ذاتها عكست في الكثير من جوانبها ما تمور به الساحة الفرنسية من تداعيات سياسية واجتماعية وبشكل واضح، وصل أحياناً حدّ كشف المستور كما يقال، ولعل من بين ذلك  ما يتسم به المشهد الفرنسي تحديداً من حوارات صاخبة حول مستقبل فرنسا وعلمانيتها وعلاقاتها المستقبلية بالإتحاد الاوروبي على وجه التحديد، والذي تزيدها اشتعالاً تداعيات الحرب الدائرة في أوكرانيا، حيث يتجلي في بعض جوانبه في  تحولات دراماتيكية في المواقف بين المرشحين، والتي وجدت لها انعكاسات وصلت حد التنافر  أحياناً، حتى بالنسبة لبرنامجي المرشحين المتأهلين فعلياً للجولة الحاسمة في تلك الانتخابات.

  ففي حين يحاول كل طرف تسجيل نقاط على حساب الطرف الآخر في قضايا مفصلية على جانب مهم بالنسبة للناخب الفرنسي، خاصة في ما يتعلق بأكثر الملفات حساسية وتأثيراً على سلوكيات وتوجهات الناخب الفرنسي، ومن بينها تراجع القوة الشرائية لدى المواطنين وملفات  التعليم والصحة ونظام التقاعد والتباينات الواضحة الجارية بين سكان الأرياف والمدن بالنسبة للخدمات التعليمية والصحية وحتى بالنسبة لمشاريع البنية التحتية والتنمية بشكل عام، والموقف من مستقبل الذكاء الاصطناعي والاحتباس الحراري وتلوث البيئة، حيث اظهرت لوبان مواقف خلافية تصل حدّ التصادم بل والتجاهل أحياناً لخصمها، وكانت لافتة محاولتها اليائسة الإبتعاد عن ما خلفه إرث والدها مؤسس الحزب الذي تنتمي إليه وترأسه أيضاً، من متاعب وخسائر في انتخابات 2017 .

 
لذلك نراها تعمل جاهدة على الإتكاء على خطاب ديماغوجي يحاول أن يكون متصالحاً مع الشارع الفرنسي بعض الشيء لكنها سرعان ما تخفق في ذلك، على الرغم من انها لازالت غير قادرة فعلياً على الخروج من عباءتها اليمينية المتطرفة، خاصة عندما نتابعها وهي لا تعطي ما يستحق من أهمية  للفرنسيين من أصول مهاجرة مطالبة بطردهم من فرنسا، وبشكل خاص عندما تتحدث عن ضرورة  التوجه في حال فوزها لسن قانون بنزع الحجاب بالنسبة للمسلمين في الفضاء العام، دون أن تنطق ببنت شفة حول رأيها في مختلف المظاهر الاخرى المشابهة بالنسبة لمنتسبي الديانات الأخرى كاليهودية والمسيحية وغيرها، رغم محاولات ماكرون جرها نحو ذلك إمعانا في فضح تلك العنصرية الفاقعة.

أما بالنسبة لمقاربة لوبان المعلنة بالدعوة لإجراء استفتاء في حال فوزها بشأن مستقبل بقاء فرنسا من عدمه في الإتحاد الاوروبي والعلاقة بشكل خاص بين فرنسا وألمانيا، فهي كفيلة بجلب الكثير من المتاعب التي ستتسبب قي خسارة لوبان للانتخابات الرئاسية، كما يستنتج غالبية المراقبين حتى اللحظة ان لم تحدث مفاجآت غير منتظرة.


لا نريد أن نسترسل كثيراً في طبيعة الإنتخابات الفرنسية وتداعياتها، بقدر ما نريد أن  نركز على جوانب مهمة من تلك الانتخابات، والتي تتمثل بدون شك في تلك الشفافية والوضوح والمكاشفة التي تفصح بين تفاصيلها عن وجوهٍ، أعتقد جازما انها تصل حد تعريض الأمن القومي الفرنسي للإنكشاف وبالتالي للمخاطر مستقبلاً، نتيجة كل ما قيل في المناظرة وحتى اثناء الحملة الانتخابية عن الإسلاموفوبيا والإرهاب ودور العبادة وعلاقات فرنسا الخارجية، وعلاقة ماري لوبان وحزبها بروسيا  وتحديداً مع الرئيس الروسي بوتين، وما اشيع من تمويل روسي لحملة لوبان الفرنسية في انتخابات 2017 واسقاط ذلك على مواقفها الراهنة بالنسبة للحرب الروسية الأوكرانية الجارية حاليا، وحتى حول سيادية قرار فرنسا الوطني بالنسبة لعلاقاتها مع الولايات المتحدة  والإتحاد الاوروبي.


خلاصة القول إن مناظرة  الانتخابات  الرئاسية الفرنسية هذه قدمت لنا دروسا عظيمة حول أهمية الوضوح والتعامل بشفافية على المستوى السياسي والوطني حتى في أكثر الأمور دقة وتفصيلاً، بل وإيلاماً أحياناً،  بالنسبة لأصحاب القرار وهم يعيشون تحدياتهم المختلفة بالنسبة للعديد من الملفات، حيث  يتبلور انحياز المواقف الحزبية واصطفافاتها، أو حتى بالنسبة لرسم سياسات البلد بالنسبة لتحالفاتهم تلك وعلاقاتهم بالعالم الخارجي، في حين تنكشف جراء تلك التفاصيل والحيثيات هشاشة أوضاع محددة وخطيرة لبلد الأنوار والعلمانية كما يحبّ الفرنسيون أن يسموا بلدهم به، أمام كل ما يعنيه إرث الثورة الفرنسية العظيم وما تحتله من موقع متقدم بالنسبة لفرنسا ذاتها وللعالم بأسره.


بالنسبة لنا هنا في البحرين أعتقد أن مناظرات سياسية بهذا العمق والجدية، يحب أن تُحفز لدى المعنيين بالشأن السياسي والوطني سواء لمن هم في مواقع السلطة أو القوى السياسية بشكل عام والمعارضة بشكل خاص،  الحاجة لحوارات حضارية بين مختلف الفرقاء،  ليتعالى الجميع فوق الجراح والإبتعاد عن ضيق الأفق حين الحديث عن مستقبل الوطن، كما يجب أن تتسم حواراتنا المنتظرة بالإحترام والإصغاء، والأهم من ذلك أن تتسم بالعمق والمضامين الوطنية الناجزة والحديث بدون تشنج، بل بروحٍ من الوطنية والمسؤولية حول مختلف قضايانا الصغيرة والكبيرة، لا فرق،  والتفكير بشكل مسؤول في مستقبل وطننا، إنطلاقا من مواقعنا كأطراف سياسية وبرلمان ومجتمع مدني، والحاجة لمغادرة حالة الخصومة  الدائمة والجلوس بشكل أكثر تفهماً وحضارية إلى طاولات الحوار لمناقشة مختلف التحديات، فقط نحتاج أن نعزز تلك الروح الايجابية القادرة على صياغة خطاب وطني جامع يهتم بالحاضر والمستقبل ويستطيع أن يرسم لنا خارطة طريق  للمستقبل.