مُدُن المِلح (2)

0
139

الأخدود

في الجزء الثاني من خُماسية عبد الرحمن مُنيف “مدن الملح، الأخدوُد، يأخذنا الكاتب بأسلوبه الشيّق الجميل إلى عالم الصحراء من جديد، ولكن لمدينة أخرى وهي “موران”، تلك البقعة المنسية والبعيدة التي لم تبلغ المدينة وإن تجاوزت القرية بحسب توصيف الكاتب. وفاة السلطان خريبط وهي في نظر الكثيرين مفاجئة، ولّدت حالة من اللغط والإشاعات والهمس واللمز والتساؤلات، وبعد كل ذلك وما ترافق مع تنصيب الأمير خزعل والمشاكل الحاصلة مع الغرباء وبالخصوص الدكتور صبحي المحملجي، وما يمثله من دورالطامع في ثروات المدينة “الغريب جاء لكي يزاحمنا، ليخلق لنا المشاكل”، وتحديداً بعد أن استقر في هذه المدينة تاركاً “حرّان” مما أيقظ المخاوف والشكوك لديهم بعد أن تأكدت علاقته الأسرية بمطيع سكرتير الأمير وما تلا ذلك من شراءه الأراضي ليبني له قصراً أسماه “قصر الخير”.

هنا يذكر لنا عبد الرحمن منيف: “الحكيم والمقصود “المحملجي” جاء إلى هذا المكان ليغير كل شيء: العقول والناس وحتى الأسماء، ومن يعش ير!”، وصف مُنيف الدور والأساليب والطرق الملتوية التي وصل فيها الحكيم إلى هذه المدينة والدور الذي لعبه في السيطرة على مقاليد الأمور، ومع ذلك كان يقول في نفسه، أي الحكيم: “الناس هنا نوع آخر، إنهم أقرب ما يكونون إلى حيوانات الصحراء مملؤون بالحراشف والقسوة والخشونة، جلودهم سميكة، وأعماقهم بعيدة لا تدرك”. وبعد أن استقر الحكيم وعائلته في موران وتوطدت علاقته بالحكم والسلطان  وأصبح مستشاراً له أخذ يقول: بأن الواحد عندما يكون غنياً يكون قوياً، وكل مكان هو فيه وطنه، ونتيجة لذلك فقد أسس واشترك في تأسيس شركات مع متنفدين آخرين توّجها  بتأسيس الشركة الشرقية للاستيراد والتصدير والنقل.

في هذا الجزء من الرواية يركز عبد الرحمن منيف على طبيعة العلاقة التي نشأت بعد وصول الشوام وعلى رأسهم صبحي المحملجي مع السلطان وكيف إنهم تسربوا إلى بيت الحكم وأخذوا يديرون الدولة بعد أن استتب لهم المقام “السلطان أعطانا مفاتيحه كلها، الظاهر منها والباطن، ويجب أن نستعمل هذه المفاتيح. أما إذا ضاعت منا، إذا سرقها أحد، إذا لم نعرف كيف نستعملها فاللوم يقع علينا وحدنا”. إذن بالحكمة والفطنة أستُعملت تلك المفاتيح بذكاء وبدهاء، فأتى بأهله وأعوانه ونصبهم في القصر ليساعدوه في تسيير الأمور. كما أن الأموال الكبيرة التي تدفقت على  خزينة الدولة نتيجة تصدير النفط جعلت من السلطان الجديد خزعل يغدق على أعوانه وترك اخوانه يغرقون في المال، عدا ثلاثة منهم: فنر ومشعان وتركي.

يشرح الراوي وبأسهاب العلاقات التي نشأت بين الأمراء، والمشاكل التي حدثت بينهم والصراع على الحكم والزيجات العديدة التي يقوم بها السلطان دون توقف، لمَ لا، فقد ورث السلطان الجديد عن أبيه صفتين: طول القامة وحب النساء، مما ولدّ مشاكل لا أول لها ولا آخر بين الخدم والخصيان والدسائس والحروب المستترة والمُعلنة داخل قصر الروض والفوضى العارمة التي تدب في القصر نتيجة تلك الزيجات والولادات المستمرة. يستطرد منيف بإطناب في شرح ما آل إليه الوضع بعد تمكن المحملجي وأعوانه من السيطرة على كل صغيرة وكبيرة من الأمن إلى الأراضي إلى الشركات والأرزاق. يشرح دور كل واحد من تلك المجموعة  وما يقومون به والصراعات التي تحدث بينهم على السيطرة والنفود ودخول عوائلهم إلى القصر والتعرف على من فيه بطرق وأساليب مختلفة. سوق الحلال التي جمعت الناس وعرفها الأطفال قبل الكبار ومنها ساقوا أضحية العيد، ومنها بدأت الأسفار، ومنها حتى الزيجات تتم باتفاق الآباء في تلك السوق، وكل أمور الحياة اليومية تتم  فيها وهي بمثابة تاريخ موران وقد أصبحت أثراً بعد عين.

“كل ذلك من تاريخ موران بدأ يغيب ويختفي من ذاكرة الناس”، بأسلوب لا يضاهيه أحد من الروائيين يصف عبدالرحمن منيف حال السوق وأحوال الناس عندما جاءهم المنادي بترك مصالحهم والذهاب إلى بيوتهم بعد أن تقرر نقل سوق الحلال من مكانه ذاك إلى العوالي، والصدمة التي انتابت الناس، منهم من رفض الأوامر ومنهم من أُصيب بحالة هستيرية بسبب تعلق الناس بهذه السوق التي لم يعرفوا غيرها منذ أن وُلدوا، فتعثرت أعمالهم وضاع مالهم وحلالهم وأصبحوا حيارى لا يعرفون لهم دليل. حال السوق كانت حال أمور وأشياء أخرى تغيرت في موران في حركة تغييرات سريعة وكبيرة بعد أن استولى الأغراب والمتنفذون على الأراضي، فالحسرة أكلت قلوب الأهالي وجعلتهم في حيرة من أمرهم واستبدّ بهم الخوف والذعر من الأيام الآتية وما تُخبئه لهم من أمور لن تكن في الحسبان. يقول مُنيف: “إذا كان لكل قرية ولكل مكان ذاكرة وقلب، فإن المدن الكبيرة، خاصة التي تتكون وتتغير بسرعة، تفقد ذاكرتها وتتعلم القسوة بإتقان.”

في هذا الجزء من الرواية لم ينس الكاتب حال زوجة الحكيم المحملجي وهو في غمرة مشاريعه وعدم تفرغه لأسرته، وما نتج عن ذلك من لجوء زوجته وداد إلى خلق علاقات غرامية مع أصدقائه ومن أتى بهم لمساعدته في شؤون القصر والأعمال الكثيرة التي يقوم بها .أبدع مُنيف أيما إبداع في خلق تلك الصورة البانورامية التي طافت بكل من التقى الحكيم بهم من السلطان والأمراء إلى الذين يتعامل معهم بشكل يومي، فلم يترك شارة ولا واردة إلا وخلق منها صورة إبداعية مُعبرة بل شديدة الوضوح من كل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فالحكيم: “منذور لشأن أكبر في موران، وأبعد من الأيام التي يقضيها الإنسان على وجه البسيطة، وهو الذي لديه نظرية يريد أن ينصرف إلى تدوينها ونشرها بين الناس لتعم الفائدة”. فالحكيم مشغول بالكتاب الذي سيؤلفه وأطلق عليه إسم (نسرّ موران)،ومع ذلك ظلّ “مشوشاً قليلاً،خاصة حين راودته فكرة إهداء الكتاب إلى السلطان.) كما أنه، أي الحكيم، قد استغرقته وتلبسته حالة جديدة ألا وهي الخوف من “الرياح الحمراء”، والمقصود بذلك الأفكار والحركات التي تسري في المنطقة، ويطلب أن “يُتخذ  الإجراءات المشددة من أجل اجتثاث هذا الميكروب قبل أن يصبح مرضاً مستوطناً..الخ”. إذن الحكيم متعدد الأشغال والمشاغل يود أن يكون هو الأول والآخر ولا أحد سواه، ولا أحد قبله ولا بعده.

يستطرد الكاتب في التعريف بكل شخصية من شخصيات روايته ويعطي لكل منها توصيفاً فائق الجمالية والدقة من حيث الشكل والمضمون، ويضرب على الوتر الحساس لأدوار كل منهم ويرسم صورة للحالة التي هم عليها وبها يتحركون من أجل مصالحم المادية. وهنا يوصف لنا  عبدالرحمن مُنيف حال أهل بلدة موران “والذين يزيد غناهم يوماً بعد يوم، يخافون ويزداد خوفهم بمقدار تزايد ثرواتهم، والفقراء الذين كانوا يعرفون كيف يحتالون على الحياة في الأيام القديمة لتأمين رزقهم، يجدون أن الحياة أصبحت أقوى منهم وأكثر مكراً، وهي ترميهم من مكان إلى آخر ولايعرفون أين ستدفعهم أو أين ستكون قبورهم فيرهفون آذانهم لسماع الأصوات الآتية من بعيد”.

لم أجد الكلمات المناسبة لأصف فيها الإبداع في تصوير الأحداث وبتلك المهارة في السرد واختيار الشخصيات: خيال خصب، عبقري، صور جمالية يتحفنا بها عبد الرحمن مُنيف وذات مدلول اجتماعي عميق عندما يصور كل حالة على حده، مثال ذلك وداد زوجة الحكيم إذ يقول:عّنت موران في بال وداد بعد سفرها مع الأولاد، في موران يمكن أن تكون ملكة: “الكل يريدها ويطاردها، حتى صاحب الجلالة. وهوينظر اليها بتلك الطريقة، كانت تحس بالنشوة، لأنها تعرف معنى تلك النظرات وإلى ما يمكن أن تؤدي ..الخ”.

لا يشأء الراوي أن يترك شيئاً للصدفة بل يمضي بالرتابة ذاتها كما الجزء الأول (التيه)، ويسلك ذات المسلك في ترتيب الأحداث بتسلسل يعجب له المرء، وبالدقة التي لا تخطؤها العين، وبالمتانة ذاتها. يأخذنا في هذا الجزء من الرواية إلى دور إبن الحكيم غزوان في عقد صفقات أسلحة وغيرها بين الولايات المتحدة والسلطنة كونه يعمل هناك، حتى ازدادت أسهم الحكيم بعد أن طلب السلطان الزواج من إبنته سلمى (فانشغل القصربهذا الزواج أكثر من الزيجات السابقة والتي اختلف عددها اختلافاً كبيراً بين السابع وعشرين أوالرابع والثلاثين، أما بعد إنقلاب القصر على السلطان وتولي فنر السلطة فقد تناوب على الحكيم الخوف والبكاء والمرض، “وسمع أصواتاً ورأى أشباحاً، أو هكذا خيل إليه”، وبذلك ينتهي هذا الجزء بالنكسة التي أصابت الحكيم وتدهور أحواله بعد تلك الأحداث الدراماتيكية التي لم تكن في الحسبان.