موافقة مجلس النواب فى جلسته قبل المنعقدة فى 19 ابريل 2022 على مشروع قانون يقضي بفصل العمل الرياضى عن العمل السياسي، ومنع ترشح أعضاء الجمعيات السياسية فى مجالس إدارات الأندية الرياضية، أمر لافت ومحيّر وغريب، كونها اولاً موافقة أبطالها نواب وليس غيرهم، وهم من يفترض أنهم أول المعنيين برفد المسار السياسي والديمقراطي، وثانياً لأنها خطوة تعمّق من المخاوف ليس فقط من وجود حلقات كثيرة مفقودة بين المواطن البحرينى والعمل السياسي، أو من المناخ العام الذى لم يعد يشجع فئات كثيرة على خوض هذا العمل، وثالثاً لأن ما تجمع منذ سنوات وحتى الآن تحت عناوين وشعارات الاصلاح، والتجربة الديمقراطية، والمشاركة الشعبية والتى أخذت الكثير من الوقت والزمن وربما المال وأضاءت واقعنا بدرجة او باخرى، بدأت منذ سنوات ومعها منظومة الوعود والأحلام والمشروعات تخبو وتنطفئ، بل لمسنا أن هناك من يتنكر لها أو يُفصّلها على المقاس والهدف الذى يريد، أو يضع لها خطوطاً حمراء لا ينبغي تجاوزها، وهذه حقيقة لم تعد تحتاج إلى اجتهادات، ولا إلى كثير من التفصيل، أو الدلائل والإثباتات لفرط وضوحها ومعايشتنا لها.
تلك الموافقة جاءت ضمن فصول سابقة صبت فى مجرى تضييق الخناق على عمل ونشاط هذه الجمعيّات ومؤسسات المجتمع المدنى، واستناداً على تعديلات أجريت على بعض القوانين فى السنوات الماضية، تعديلات شددّت وضيقت على اشتراك ناشطي المجتمع المدنى وإسهاماتهم فى عمل هذه الجمعيات والمؤسسات، وهو أمر يتنافى ويتعارض مع ما ينصّ عليه الدستور من حرية الانضمام للجمعيات والنقابات وكفالة حرية الرأي والتعبير ، مما أدى الى تآكل مؤسسات المجتمع المدنى وتغييب دورها المجتمعي، وذلك على النحو الذى بيّنه نائب كتلة “تقدّم” فلاح هاشم فى أكثر من مناسبة، في مقالة له فى هذه النشرة عنوانها “مؤسسات المجتمع المدنى فى البحرين: الواقع والتحديات”، هذا الواقع الذى يفرض مهمات شاخصة أمام مؤسساتنا الوطنية والدستورية، مهمات باتت متشابكة ومعقدة، لكنها ليست عصيًة على الحل والاختراق، وهذه قناعة عبّر عنها أيضًا، نائب كتلة “تقدّم”عبدالنبي سلمان فى مقاله فى هذه النشرة “مجتمعنا المدنى وقوانا السياسية مرة أخرى”، وما خلص اليه النائبان، وبإضافة ما أثير فى اكثر من مناسبة، حول وضع جمعياتنا السياسية ومؤسسات مجتمعنا المدنى ومشاريع تقويضها.
وبالنظر إلى الحال الراهنة التي تعيشه وتعانى منه هذه الكيانات، تكون الحاجة ملحة للتوقف أكثر من أي وقت مضى لنشخص بموضوعية وصراحة وجرأة، مكامن العلة وأن نحلل أعراضها وإشكالياتها، وأن نطرح ونتداول الأسئلة الصعبة مع نية ان تكون مقرونة بالرغبة فى تجاوز هذا الوضع، لعلنا نفلح فى بلوغ الدواء الشافي الذى لابد من السعي إليه مهما كان مناله صعباً، وان نؤسس للممارسة الديمقراطية السليمة التى لا زلنا ننشدها ونتطلع إليها على أرض الواقع الملموس وليس تلك الديمقراطية التى تُردد للاستهلاك العام والخاص.
نعود إلى ما يتصل بجمعياتنا السياسية، يمكن أن نتوقف ونذكّر فى هذا السياق بما آلت اليه أوضاع جمعياتنا السياسية بعد ذلك الزخم من النشاط والحيوية والتنافس، لسنا فى وارد التذكير بضرب الأمثلة، ولكن تكفى الإشارة إلى الخطاب المشترك الذى رفعته تنسيقية هذه الجمعيات فى العام الماضي إلى وزارة العدل والشؤون الاسلامية كجهة معنية بأمور هذه الجمعيات، وهو الخطاب الذى يعكس ما آلت إليها الحال المؤسفة لهذه الجمعيات، فى هذا الخطاب تعبير عن حقيقة الأوضاع المتردية لهذه الجمعيات حيث اكدت بأنها “إحدى ثمار المشروع الاصلاحي وتسعى دوماً الى تعزيز دورها الإيجابي فى خدمة الأهداف الوطنية، ولكنها اليوم تمرّ بوضع مثير لكثير من التساؤلات بعد أن بات بعضها فى وضع حرج ومأساوي وصل إلى حدّ أن الرهان اصبح مطروحاً على قدرة بعضها على الصمود والبقاء قيد الحياة، أو الدفع بها لكي تكون جمعيات من ورق”، هذا الأمر يشكّل انتكاسة حقيقية لمسارات عمل هذه الجمعيات وللحراك السياسي، وتأكيداً على أن الحياة السياسية بوجه عام أصبحت رثة وفى حال أضعف مايكون .. وعرضة للخطأ والخطيئة، وجعلها عقيمة، حيّة رسمياً، وميتة سريرياً، وخارج الملعب حتى وإن كانت باقية لتمتعها بفضيلة النفس الطويل.
ما ينبغى فهمه والتأكيد عليه، وان يكون حاضراً فى الأذهان على الدوام انه لا يمكن فصل الحياة العامة عن العمل السياسي، أليس النشاط العام، وعضوية النقابات والاتحادات والمراكز والأندية والجمعيات بكل اهتماماتها واهدافها، الحقوقية والمهنية والطلابية والشبابية والفنية والعمالية، وكل ما يعد تأسيساً او نشاطاً او انتماءاً او مشاركة فى العمل العام او الشأن العام نشاطاً سياسياً، أليست المشاركة فى الانتخابات البرلمانية والبلدية، انتخاباً أو ترشحاً عملا سياسياً، أليس إعطاء دروس فى التربية الوطنية التى يتلقاها الطلبة فى بعض المدارس والجامعات عملاً سياسياً، ثم أليست الجهود والبرامج التى ينظمها ويقيمها معهد البحرين للتنمية السياسية والدراسات التى يصدرها ترتبط ارتباطًا وثيقاً بمفهوم وممارسة السياسة، وبرامجه تهدف الى تشكيل وعي سياسى بشكل او بآخر، ثم ألم نجد وفى أكثر من مناسبة من أكدّ لنا ما خلاصته بأن عملية إشراك الشباب فى الشأن الوطنى هو رهان رابح فى كل الأحوال، وأن تعزيز مشاركتهم فى الحياة السياسية يُعدّ نجاحاً كبيراً يجب دعمه والإستمرار فيه والبناء عليه، مع تأكيدات طرحت على أهمية التمكين السياسي للشباب، ورفع مشاركتهم فى صياغة المستقبل، وقبل ذلك أليس التصديق الشعبي الحاسم على الميثاق الوطنى، وتبنى كل أهداف وعناوين هذا الميثاق، وما نتج عنه من حراك وتغيير وتأسيس الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدنى، عملاً سياسياً وبامتياز ..؟!
ثم ألا يدخل ذلك الكم من الكلام الجميل الذى كان موضع قبول وترحيب فى وقت مضى عن مبادرات الاصلاح والتغيير والمشاركة الشعبية، والشراكة الوطنية، والتوافقات، وبعث الروح الوطنية فى صلب العمل السياسي؟، هل تلك العناوين والأهداف لم تعد اليوم لسبب أو أسباب محلاً للإيمان والاقتناع والقبول، وأن القناعة اليوم الإكتفاء بأن تقوم هذه الجمعيات والكيانات بأدوار هامشية أو شكلية واجهات فارغة من المضمون للديمقراطية والتعددية حتى وإن كانت لا تتطابق مع أصل وجوهر الديمقراطية والتعددية.
نعود إلى السؤال الذى يفرض نفسه، نسأل مرة ثانية، وثالثة، ورابعة، ولن نمل من طرح هذا السؤال: أليست كل الحياة العامة سياسة ؟، وأن كل الشؤون العامة تقريباً تتصل بالسياسة وتدخل فى لبّها، وأن كل هم او شاغل اقتصادى، مالى، اجتماعى، تنموي، عمالى، شبابي، إلخ، يتأثر بالسياسة، والحياة، والرؤى، والمنطلقات والأهداف السياسية، بما فى ذلك ما يتصل بالجهود والدعوات إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأنسنة شروط الحياة ومكافحة الفساد والبطالة والفقر، ليس بالضرورة سياسة بالمفهوم السياسي الكامل، فالنشاط الأدبي أو الثقافى والابداع الفكرى، والنشاط الرياضى والطلابي والتنوع والخيري والتعاوني نماذج للنشاط فى الحياة العامة دون أن تكون إنخراطاً مباشراً فى العمل السياسي كما يجب وكيفما يجب.
ليس بالضرورة أيضاً أن يتحول كل شاب الى سياسي ومتفرغ للعمل السياسي، وان هذا الشاب لابد ان نخشى منه ونتوجس ونقف عقبة كأداء فى صياغة المستقبل الذى يريده ، كما ليس بالضرورة ان تكون مفيدة ومجدية إحداث حالة من التوجس وكل ما يوسع الهوّة بأي شكل من الأشكال بين المواطن والعمل السياسي، بل من الضروري ان يؤخذ بعين الاعتبار ان من حق الانسان أن يفكر، وأن تكون له قناعاته، أن يحاور، ان يختار، وأن تكون له رؤى ومواقف ومبادرات، وأن يشارك فى أي عمل أهلى، أو نشاط طلابي او شبابي، وفى أي انتخابات، وفى عضوية الجمعيات والمؤسسات كأدوات من اجل تحقيق أهداف وطنية وظهور رؤى جديدة تخدم الوطن والشعب.
ومن هذا المنطلق، وعلى هذا الأساس فإن محاولة الفصل بين العمل السياسي والحياة العامة هى وقوع فى المحظور، ويتعاظم هذا المحظور حين نخلق الهواجس والموانع التى تحول دون إنخراط الشباب فى مجالس ادارات الأندية، أو نتحفظ على توظيفهم، أو نحول دون ترفيعهم فى وظائفهم، أو مشاركتهم فى شأنٍ ما، فقط لأنهم أعضاء فى جمعيات سياسية، أو يمارسون العمل السياسي، أو يشاركون فى إبداء الرأي الصريح، وكأننا بذلك نريد لشبابنا أن يكونوا أصحاب عقول راكدة، وأفكار محنطة، لا مبالين، وسلبيين، وغير متفاعلين، وكأنه مطلوب منهم ان يكونوا على الهامش، صدقوا او لا تصدقوا.
بداية العلاج وخير مدخل له، الإعتراف بالحال الذى آلت اليه الجمعيات السياسية ومعها الكثير من مؤسسات مجتمعنا المدنى، مهما كان تاريخها وإرثها ووضعها وحجمها وأهدافها ومنطلقاتها وبرامجها، دون أن يعفينا ذلك من الإعتراف بكل وعي وتبصّر بأن هناك من هذه الكيانات من عانى من عجز على تحريك ما هو ساكن أصلاً، ربما بسبب معاناتها من نقائص وأخطاء وإخفاقات تعود إليها وإلى إدارة القائمين عليها، ومن ضمنها بطبيعة الحال بعض الكيانات التي أصبحت بمثابة أحصنة اعتلى صهوتها من لا صهوة له، وهذا واقع جعل هذه الجمعيات والمؤسسات منهكة غير قادرة على القيام ولو بالحد الأدنى مما يجب أن تقوم به، وتفاقم هذا الوضع بعد انقطاع كل أشكال الدعم عنها والمالى منه فى المقدمة، وجعل بقاؤها مطوياً فى المجهول ..!
فى إطار العلاج نحن اليوم بأمس الحاجة إلى عملية انقاذ لكل الجمعيات والمؤسسات التى بات وضع كثير منها إن لم يكن جميعها مكشوفاً على شتى ألوان الإهتراء مما جعلها أمام المجهول، مشروع إنقاذ غدا ضرورياً، مشروع ينهض كذلك بالوضع السياسي الذى يشكو من الضمور، لا نريد تبسيط هذا الأمر تفادياً لتبسيط واقع الحال وتبسيط الحلول والمعالجات، ولكن يمكن القول إن المطلب الملح أن يعطي كل من يعنيهم الأمر أنفسهم وبلا مواربة فرصة المراجعة الجريئة والعمل بمنتهى الجدية على تصويب أوضاع الجمعيات والسماح لها بمعاودة ذلك الزخم فى الحراك والنشاط بعيداً عن الثرثرة والإدعاء ومواصلة الشعارات الملتوية والمآرب الرخيصة وكل ما يعيق تقدمنا إلى الأمام، خاصة حين تكون الأمور بمنتهى الوضوح، الكل بات على المحك، والكل مدعو إلى عملية الإنقاذ، ليس مقبولاً أن يتنصل طرف من المسؤولية، و قبل كل شئ لا بد من إرادة من بحوزتهم المفاتيح اللازمة لتحريك هذه العملية، وعليه يبنى على الشئ مقتضاه ..!!
كلمة أخيرة، تجاهل واقع تلك الكيانات أو التسليم بسياسة الأمر المفعول والتسطيح وجعلها خارج نطاق الفاعلية والتأثير، هو هروب من مواجهة هذا الملف، أن نسكت على هذا الوضع بكل ما فيه من سكون وجمود وخلل، وما يواجهه من تشويش وهواجس ومحاذير، ونبقي هذا الحال على ما هو عليه، ونظل نشعر بأن هناك ما يدفع بهذا الوضع إلى ما هو أسوأ، هذه جريمة بحق الوطن وبحق شعب هذا الوطن، هذه هى الحقيقة الغامضة من شدة الوضوح ، الواجب الضروري اليوم أن نرتقي باستنكارها إلى درجة عالية من الوعي والحس والادارة حتى لانتوه فى متاهات من يريد لنا أن نعيش ونتوجع من حالة تيهٍ دائمة.