عن الخبر الذي لم يحدث

0
69

اخترت في ندوة مركز كانو الثقافي في مطلع شهر أبريل الماضي التحدث عن الخبر الصحفي بين الإمكانات والتحديات، وكذلك مجالات الإبداع في تناول القصة الخبرية وتوظيفها في شتى صنوف الكتابة الصحفية، وأرى أنه بالخبر الصحفي المتميز – في ظل صعوبة إبداء الرأي راهنا – تستطيع الصحافة عبره أن تحلق عالياً وأن تحقق لنفسها الفرادة والتنوع والاختلاف بديلاً للتماثل القائم حالياً بين جميع المطبوعات الورقية والإلكترونية، لكن وقبل الحديث عن الجودة الخبرية والإبداع الخبري لابد ان نعرج على ما حلّ بصحافتنا الحالية من هزالة وضعف ومن جور على الخبر وتجاهل متعمد لأبجديات الخبر الصحفي الصحيح وأعمدته الأساسية الجوهرية.

 ولقد انتقدت في الندوة سياسة نشر الخبر الجاهز المرسل من إدارات العلاقات العامة والمراكز الإعلامية الجديدة “على علاته” دون استكمال عناصره، الأمر الذي يقوٌض الأعراف والتقاليد الصحفية الراسخة ويؤسس لقبول الخبر المعيوب والناقص واعتباره أمراً معتاداً وطبيعياً، كما أنه يكرّس التماثل والتشابه القائم على الخبر المعوج بين الصحف جميعها ويلغي أي فوارق أو اختلاف بينها.

 من يصدق ان تستسهل صحافتنا بعد هذا العمر الطويل من تاريخها المديد والعريق كتابة الخبر غير المكتمل، مع العلم بداهة أن تجاهل أي ركن من أركان الخبر قد يضرب الخبر الصحفي في مقتل، و كل يوم وأنا أتصفح صحافتنا أرى الخبر المظلوم والناقص في صدر الصفحات الأولى أحياناً، مثل هذه الأخبار التي يكتنفها الكثير من الأسئلة اللاحقة للخبر المعيوب، تُشعر القارئ أنه أمام أخبار لم تحقق له الإفادة الكاملة ولا الإشباع وتضعف علاقة القارئ بصحيفته لأنها لا تحترمه وتستخف بقدراته، وشيئا فشيئا ينصرف عنها إلى مواقع ومنصّات أخرى، فتكون صحافتنا قد أضرّت بنفسها وبكفاءتها ومصداقيتها  بيدها لا بيد عمر.

هذه مقدمة لابد منها للتطرق الى الحديث عن الخبر الذي لم يحدث، فهل هناك أخبار لم تحدث؟ وهل لدى الصحف هامش للتحرك والمناورة في مجال الخبر الذي لم يحدث؟

إن كل قرار أو مشروع أو استحقاق قالت الحكومة إنها ستنفذه ولم تلتزم بوعدها فيه يعد خبراً هو الآخر.على سبيل المثال مواعيد افتتاح المدن الإسكانية الجديدة، المشاريع الاقتصادية الضخمة التي جاء الإعلان عنها في مؤتمرات ضخمة وترافقت مع تصريحات تصدرت مانشيتات الأخبار والإستثمارات المؤجلة، أو توصيات تقارير الرقابة الإدارية والمالية، فمثل هذه الأخبار يتذكرها الناس ويتداولونها، وإن حاولت الصحافة طمسها أو تغييبها أو خلق مبررات لإلهاء الناس عنها، ولقد وجدت في تعليقات القراء على منصّات الإعلام الرقمي وال”سوشيال ميديا” الكثير من الأخبار التي حلّ وقت ولادتها ولم تظهر للنور، وأرى أن تتبع ونشر مثل هذه الأخبار ذات الطابع الاستقصائي والمرتبط بمصالح الناس وقضاياهم هو ما يُوطد أواصر الصحيفة بجمهورها وليس الخبر الرسمي الجاهز المتوفر على جميع المنصّات الرسمية.

الصحفي الذي يحفر في الصخر طولاً وعرضاً وعمقاً للبحث عن الأخبار كل يوم لا يخطىء الطريق إلى الخبر الذي لم يحدث أو الخبر المُغيب أو المنسي او المركون في الأدراج، فيعيد طرح الأسئلة والنقاش حوله ويبعث الحياة فيه مجدداً، ويمارس عبره ضغطاً على صاحب القرار. إنها الاخبار التي من الممكن أن يستعين بها الصحفي للأيام الجافة صحفياً أيضاً، لذلك أقول إن صحفيّاً نشطاً ومتمرساً ومتابعاً ووثيق الصلة بتاريخ أخباره لا يعاني من الإفلاس الخبري أبداً.