يستدعي المخرج حسين عبدعلي، في عمله المسرحي الأخير “هاراكيري”، جرعة مكثفة من الثقافة اليابانية. فحين يلقي حجره الأول للمتلقي في عنوان غير مألوف، فهو يرسل له دعوة خاصة: ابحث حتى تفهم!
الدهشة أن يقودك البحث إلى معنى بعيد عما يروِّج له العمل، حول علاقة عاطفية بين شاب وفتاة، يطلب منها لاحقاً مبلغاً من المال مقابل الطلاق. و”الهاراكيري” هو قطع الأحشاء عند مقاتلي الساموراي الذين يلجأون إليه ليتفادوا الوقوع في أيدي الأعداء، أو لمسح هزيمة أو عار، وهو فعل يعبر عن التكفير، والطريقة هي أن يقوم الساموراي بمحض إرادته بطعن نفسه بسكين حادة، ثم يقوم بتعيين شخص ما ليقطع رأسه دون فصله. قد لا يبدو أن ثمة اشتباكاً بين الخطين. فالفتاة -في العرض- تبات ليلتها في فندق مخصص لراغبي الانتحار، قد خالفت القانون بإقامتها لمدة أسبوع دون أن تقدم على هذه الخطوة، والموظف يطالبها أن تحسم أمرها، أو تغادر المكان صباح اليوم الثاني، لأن هناك قائمة طويلة تنتظر أن تخلو غرفة في الفندق!
استعمل عبدعلي صورتين؛ الصورة الأولى كانت الظاهرة في العرض المسرحي، الفتاة التي تجيب عن تساؤل الموظف عن سبب وجودها بالفندق، فقررت أن تحكي له وقت أن استجابت بخوف وخجل إلى إعجاب “أحدهم” المهذب على صورة لها في منصة تواصل اجتماعي، وكيف تطورت هذه العلاقة حتى اغتصبها في السيارة، ثم على التوالي: قبض عليهما بتهمة الإخلال بالآداب في الطريق العام/ تزوجها قسراً/ تخلى عنها أهلها مباشرة دون استيعاب الظرف/ عاملها بقسوة وعنف وغرابة وإذلال شديدين. وبناء على كل هذه الأحداث العسيرة، قررت القدوم إلى المكان، حتى تُنهي حياةً لم ترغب بها، ولم تكن خطتها أن تنتهي بهذا الشكل.
أما الصورة المخفية، فهي الكاشفة لربط الخطين معاً، والتي تعمّق فيها المخرج عبر تقاطع مصير الساموراي مع الفتاة؛ كلاهما ينهي حياته من أجل محو الهزيمة. وبينما يقوم هو، حسب التقاليد اليابانية، بالاغتسال وارتداء الأبيض وطلب الطعام المفضل قبل أن تنتهي ليلته الأخيرة بالسكين الحادة، تقوم هي بارتداء الأبيض أيضاً، وأضافت عليه رداء الحمام الأبيض كمعادل بصري للـ”كيمونو” الياباني، قبل أن تقرر الاسترخاء في ماء دافئ، وتطلب طبقها المفضل، وموساً حادة تجعل الموضوع ينتهي بسرعة، وبأقل قدر من الألم. والحقيقة أن الجمع بين الصورتين، حين يدركهما المتلقي، ممتع أكثر، خاصة لمثل هذه العروض المقامة على وعي، وإدراك، وفكرة تبدو بسيطة لمشكلة في الأساس كبيرة، وتكبر أكثر مع الوقت. فإن تمّ إدراك المعنى مع العرض؛ سيخرج المتلقي بجرعة جيدة من متعة الربط وإثارة الأسئلة في ذهنه.
وما فعله العرض هو مقاربة فكرة هاراكيري الساموراي اليابانية بفكرة محلية – أو تخصّ المنطقة على أبعد تقدير- وهي الانتحار لإبعاد الإحساس بالعار والهزيمة. أما التطبيق، فكان في نسخة تخص المتلقي هنا، في هذه البقعة الجغرافية، عبر دلالات مثل مزج اللهجة البحرينية مع اللغة العربية، وهي لغة العرض، واللغة علامة لا يمكن تجاوزها، أو الاعتقاد بأن تقديمها جاء من أجل تقريب معنى، بل الحقيقة أنه كسر لواقع كونه حدثاً قد يكون هنا، أو في أي منطقة عربية، حسب منطق فكرة الشرف والأعراف. لكن العامية أرجعته إلى هنا، حيث: “ممكن أعزمج على كوفي؟”، وطبق “المضروبة” المحلي والمعروف في منطقة الخليج، أو ذاك الطلب الذي لامس معاناة بعضهن في صالة العرض؛ لانتشاره في مجتمعاتنا بطريقة غريبة: “تبين أطلقج؟ أدفعي لي اثني عشر ألف دينار!” في ابتزاز مغلف بمشروعية قاهرة، لا سبيل للحرية من حياة زوجية بائسة إلا الدفع، أو الطريق الطويل جداً في المحاكم الشرعية، التي تؤجل هذه القضايا لسنوات، من كثافة بؤسها يخيل للعامة أن القاضي لا يعي أنه وقت مستقطع من حياة أنثى، ومن عمرها البيولوجي الذي لا يعوَّض.
قدم “هاراكيري” صورة بصرية بديعة في تكويناتها المنسابة بنعومة وبدقة محسوبتين، وكذلك فعل في زي الممثلين الأربعة الذين كانوا يتناوبون على شخصيات عدة في لون أسود، ما عدا الشخصية الرئيسية: موظف الفندق/ ضابط الشرطة/ الأب/ عمال، وكان الانتقال، بين كل هذه الشخصيات لخدمة الحدث، انسيابياً وملفتاً في الخشبة المظلمة معظم الوقت؛ صوت المثلث الموسيقي Triangle الذي ينسب للآلات الإيقاعية، وهو يضبط الحوار بين الشخصية الرئيسية والشاب حين امتدت حبال الود والقبول بينهما أول مرة وصدقناه لفرط واقعيته؛ آلة الهارمونيكا وهي تعبّر عن شخصية الزوج لاحقاً، منذ وقت اغتصابها، وحتى في المشاهد التالية، حتى يميز المتلقي شخصيته من غيرها. فالممثلون لا يتبدل فيهم زي أو اكسسوار، وهم في الأساس على الخشبة معظم الوقت، لذا فإن الحوار ونبرة الصوت هما اللذان يقودان المتلقي إلى الشخصية.
اختيار المخرج لطاقم عمله جاء موفقاً إلى حد كبير، ليس فقط بسبب الانسجام التام الذي يبدو على الخشبة ويستشعره المتلقي بسهولة أثناء العرض في عناصره، لكن أيضاَ في حضور دانة آل سالم في كل مرة بذاكرة خالية من أي شيء، إلا من الشخصية التي تتلبس فيها، وتعيشها بالكامل، خِفَّتها قبل المشكلة، والثقل الذي عبّرت عنه بعدها، وردود الفعل بينها وبين الشخصيات الأخرى، كيف تفضح سيرة خوف كل الإناث مع المعتدي عليهن وأهاليهن ومسئول الأمن في مركز الشرطة من نبرة صوت تتغير، وجسد يتكوم وينكمش حين يشعر بالخذلان ويعتاده!
وكذلك في التوازن الذي يمنحه باسل آل عباس ومحمود الصفار في الأدوار الرجالية/ الذكورة المناطة بهما، وفي التدرب على قمع أنثى من أي موقع يكونان فيه. الصفار؛ الزوج الذي يهين طول الوقت وبكل الأشكال النفسية والمادية، الأب الذي يتخلى عن حمولته سريعاً لمجرد إحساسه أن الفضيحة في بقاء ابنته في بيته، على الرغم من انخفاض إحساسه الصوتي والمعبر عن الألم عن ذاك الذي يروى عن الآباء في مكانه، لكن نفس الممثل في دور الزوج بمركز الشرطة يعبّر بنبرة عسكرية عن أسئلة المسؤول الأمني الذي يمنحه فرصة للكلام والتصديق والميل لرأيه أيضاً بدون أي سبب ظاهر، عدا كونه رجلاً مثله.
باسل قام بدور أساسي في بث جرعة من الأمل في حياة الشخصية الرئيسية، برغم كل الأحداث التراجيدية التي تدعو للأسى، لكنه خيط النجاة في هدوئه، واتزانه، وتعاطفه الخفي، ورجائه ألا تقدم على الانتحار؛ في صورة تذكرتي سيرك لليوم التالي، لعلها تكون الناجية، وترك للمتلقي كذلك الذي سيتعاطف مع الفتاة، لأنه شاهد على ما واجهته وحيدة، وتحملته، فصار حكماً أن يكون في صفها، لذا فهو يرى في موظف الفندق المتعاطف، أملاً جديداً ألا يؤول مصيرها كما من سبقوها في نفس المكان.
واختار المخرج أن بوجه ممثليه نحو عدم التلامس نهائياً في أفعال حاسمة ومصيرية، مثل الاغتصاب الذي نُفّذ بإيحاء صعب، لكن بتكنيك مبهر، عبّرت عنه آل سالم بمهارة، فيما جاورها الصفار -على نفس قطعة الديكور الوحيدة التي استخدمت بأكثر من طريقة في العرض- وهو يوحي بالفعل عبر الهارمونيكا التي لم يتوقف سيلها إلا بعد انتهت العملية حسب وصف الشخصية. ومن بعد انكشاف الوجه التعس للزوج، صارت هذه الآلة مزامنة لحضوره على الخشبة.
إشارة أخرى أيضاً من خلال الإهانة الذي تتعرض لها الزوجة؛ بالمعاملة القاسية والضرب، حيث يقدم الزوج على ضربها بالحزام. وفي عرض الليلة التالية، بنفس المشهد، أقدم الزوج على فتح أزرار قميصه كنوع من الإيحاء لمباشرة علاقة حميمة. وفي الحالتين، كان العنف يتصدرهما، لكن الثانية تسمى “سادية” تكشف عن نفس وعرة، وعقد نفسية مكبوتة، عبر الرغبة الشديدة في التحكم والسيطرة على الشريكة/ الضحية، وهذا يفسر للمتلقي نفسية هذا الزوج، وما يمكن أن يعتمل في صدره وعقله من سوء.
وحتى الفتاة الأخرى “أفنان المرباطي” التي وضع العرض لها مشاهد فاصلة متقطعة، موازية لمأساة الشخصية الرئيسية، تبين خوفها/ ترددها/ ارتباكها من شيء ما، تحقق لاحقاً حين نفذته وأقدمت على إنهاء حياتها بأدوية مسكنة، تاركة في حقيبة يدها الحمراء، والعامل يفتشها بلا مبالاة كفعل معتاد ومألوف لديه: أغراضها الشخصية، وفوطاً صحية كمؤشر على عمر الشباب والجاذبية وما قد تجلبه من مشاكل في مجتمعها، ورسالة تلامس القلب تعتذر فيها لمن يستحق، وهي تشبه كثيراً رسالتي انتحار انتشرتا في الأخبار المتداولة لفتاتين في عمان ومصر تعرضت الأولى لاكتئاب لم تُجدِ محاولاتها للفرار منه، والأخرى لابتزاز صور مفبركة لها من قبل شاب في نفس المنطقة لم تصمد معه كثيراً، فاستسلمت. وما هاتان الحالتان إلا نموذجان لكثيرات تربين على القلق والحذر والخوف العظيم من عقاب المجتمع لهن، سواء ارتكبن ما يستحق العقاب أو لم يفعلن.
لم يعط هاراكيري اسماً للشخصية الرئيسية فيه، لكن معاناتها اخترقت كل متلقٍّ شعر بما تمر فيه. هي في مجتمعنا، وبيوتنا، وحولنا، نسمع عشرات القصص المكررة يومياً دون أن تتغير أوضاع الزواج القسري في مراكز الشرطة ومكافأة المعتدي بما يسمى كذباً: “الستر”. المطلقات اللاتي تضيع من أعمارهن سنوات طويلة حتى يحصلن على هذا اللقب! المعلقات اللاتي يتفنن أزواجهن في المماطلة بالانفصال، مهما قدمت المرأة ما يثبت ضررها، بينما يستطيع هو البدء في أي وقت من جديد، وتكوين أسرة أخرى! الزوجة التي تصمد في علاقة زوجية بائسة، لأنها لا تريد الدخول في متاهة رفض الأهل والمجتمع، ووقت المحاكم غير المحدود؛ المعاناة القانونية والمجتمعية التي تعتبرها نصف كائن، لا حقّ لها في التصرف كراشدة وبالغة لها رأي ورغبة وكرامة وحياة واحدة لا تتمنى أن تفرط فيها مع شريك لا تتفق معه، والقوة -كل القوة- عنده، وليس لها إلا استدرار العطف، ولفت الأنظار أن تعامل بتقدير أكثر وكما تستحق.. فقط.
الآن.. هل كان اسمها فاطمة؟
- فاطمة واحدة من جمهور عرض “هاراكيري” تعرضت لابتزاز مشابه حتى تحصل على الطلاق.