بعيداً عن الغبار الكثيف للحرب الأوكرانية، ثمة حرب أكثر قساوة ونفاقا على الجبهة الإعلامية والدبلوماسية، لم تتمكن من إخفاء حقيقة الأسباب العميقة لما يجري.قد يستمتع قادة البيت الأبيض في نجاحهم في التقاط الصورة لثلاثين زعيما في حلف الناتو يفتخرون بـ”وحدة العالم الغربي وحلف الناتو”، وعلى اتهام الرئيس بوتين بالمقامر والمغامر وأنه صاحب حسابات خاطئة ولم يقدّر جيداً قوة الحلف “الديمقراطية والليبرالية”، وبأنه تسبب في أخطر تهديد للسلم والأمن والاستقرار العالمي.
لكن نظرة مدققة في التداعيات تّظهر، كما كتب المحلل الفلسطيني محمد مشارقة، أن واشنطن التي أطلقت رصاصات الرحمة على النظام الدولي الذي صنعته في السبعين سنة الماضية، ربما يشهد اليوم دفن هذا النظام الليبرالي الجديد المتوحش بأسرع مما توقع أكثر الخبراء تشاؤماً. وحجم الترهيب والضخ الإعلامي وثقافة القطيع والتضامن الزائف، لم تسمح بعد للفكر السياسي الغربي، بتقديم المراجعات النقدية لأكبر مقامرة ومغامرة قدمتها إدارة أمريكية في تاريخها، ساهمت في التأسيس لنظام غير نظامها الذي صنعته وهو يتهاوى اليوم بحروب بوتين ومغامراته أو بدونها.
العقود الماضية شهدت تدخلاً هائلاً في الاقتصادات العالمية، فالصين تحوّلت إلى المصنع الأكبر للعالم الغربي، والهند بات لديها “سيليكون فالي”، تقدّم للصناعات الرقمية العالمية أفضل وأرخص تطبيقات تكنولوجيا المعلومات والبرمجيات، وروسيا تتحكم في نحو 40% من طاقة أوروبا. بل والأخطر من ذلك بلداً كان حتى عقدين سابقين يحسب على العالم النامي وفي طور النمو، تمكن من دخول الثورة الصناعية الخامسة ومن نهاية ثورتها التكنولوجية الرابعة، وبات ينافس على احتلال أهم سوق سيتحكم بمصير السياسة والاقتصاد في العالم وهو سوق” البيانات – Data” من خلال تطبيقات هواوي وجي 5 وجي 6.ب، بل وأين توضع العملات الرقمية والبنوك الافتراضية في هذا السياق، سوى أنها محاولة عالمية للخروج من النظام النقدي العالمي ومن سيطرة نظام اللصوصية العالمي المتمثل في البنوك.
صحيح أن النظام الرأسمالي يصحح مساره لضمان الربح الفاحش، لكن الصحيح أيضا أن النظام المالي والاقتصادي القديم ضاق كثيرا على صناعه، واستدعى التغيير. مع سبعينات القرن الماضي انتهى عملياً إمكانية تحقيق الثروات عن طريق الاستعمار والنهب المباشر، لكن هذا الاستعمار تجدد بطريقة غير مباشرة وعبر أدوات لطيفة ومعقدة أدارتها المؤسسات الدولية المتخصصة مثل البنك والصندوق الدوليين ونظام الديون المتعسفة، التي تدفع عبر نظام الفوائد المركبة بما يزيد أضعافا مضاعفة على أصولها.
معركة بايدن الحقيقية ونظامه الليبرالي الغربي ليست مع بوتين ولا لعيون زيلينسكي الأوكراني وشعبه الضحية، بل في مكان ٱخر تماما. فماذا لو حققت الصين هذا اليوم تفاهماً مع الهند، وازيلت من الطرق المخاوف والهواجس وأسباب التوتر المتبادلة بين البلدين. ساعتها كيف ستقبل الشركات الرأسمالية التريولنية الخمس والتي تفوق قدرتها المالية ميزانيات نحو 25 بلداً أوروبياً، أن تستمر إدارة نظام العقوبات على البلدان “المارقة” والتي تضم سوقاً لنصف البشرية، بعد أن وضع بايدن اليد على احتياطات البنك المركزي الروسي وتقدر بـ 300 مليار دولار، من هو السياسي المأفون الذي سيبقى على إحتياطات بلاده بالدولار، أو يستثمر في سندات الخزينة الأمريكية، ونحن نتحدث عن 13.4 تريليون دولار.
البشرية بأكملها ضاقت ذرعاً بنظام النصب العالمي، المغلف بأكاذيب لم تعد تنطلي على أحد بعناوينها “الديمقراطية وحقوق الإنسان والثقافة الغربية الأحادية” وإدعاء تفوقها على العالم بحضارته وثقافته المتنوعة والمتعددة. بوتين لم يفعل شيئاً سوى أنه اطلق رصاصة الرحمة على نظام يتهاوى منذ زمن، وسيحكم التاريخ القريب وليس البعيد، ما إذا كان مقامراً ومغامراً ومستعجلاً.
About the author
كاتب بحريني وعضو التقدمي