التاسع من مايو/أيار من كل عام يوم ربيعي جميل، حيث تكون موسكو قد ودعت آخر آثار الثلوج، ويكون الجو صحوا وبدأت الطبيعة ترتدي حلة قشيبة من اخضرار الشجر وتفَتُحِ براعم الورود والزهور بألوانها المختلفة. الطبيعة قبل الناس هيأت نفسها ودَعَتهم ليحاكوها للاحتفال بيوم النصر العظيم الذي حرر فيه الجيش السوفياتي الأحمر البشرية جمعاء من الفاشية البغيضة ودحَرها في عقر دارها – برلين. ومنذ الصباح الباكر ترى الأجيال الحاضرة من الأمهات وأطفالهن بأحلى الملابس الفلكلورية. أما قدماء المحاربين، رجالا ونساءً، الذين ينسون في هذا اليوم تقدُّمَ العمر، فتخُفُّ بهم الأرجل سعيا إلى الساحة الحمراء، مليئين زهوا وفخرا بكثرة النياشين والأوسمة التي عُلقت على صدورهم، والتي أحرزوها عندما كانوا يصنعون مجد هذا اليوم.
خلال فترة إقامتي الطويلة في الاتحاد السوفياتي مرة واحدة فقط حالفني الحظ أن أكون على مدرج الساحة الحمراء في موسكو لمشاهدة عروض احتفالات يوم النصر. هناك شاهدت رواد الحرب وأبطال الاتحاد السوفياتي وأبطال العمل من علماء وعمال، والضيوف الأجانب من دبلوماسيين ومدعويين يتوافدون ليحتلوا مقاعدهم في مدرج المنصة. ثم يدخل القادة ليعتلوا سقف ضريح قائد ثورة أكتوبر الإشتراكية العظمى – فلاديمير إليتش لينين، قبالة الساحة الحمراء استعدادا للعرض. جدران المباني المحيطة بالساحة الحمراء مزدانة برايات النصر وشعارات الإشتراكية على خلفية من اللون الأحمر ومرصعة بالمطرقة والمنجل. أما أرض الساحة الحمراء فكعروس خضبتها الخطوط الإرشادية التي رسمت ليهتدي بها الجنود والآليات والأفواج المختلفة أثناء العرض العسكري والعروض الأخرى.
كل شيئ جاهز. بعد أخذ الإذن وإصدار الأمر ببدء الاحتفالات يحيِّي وزير الدفاع جميع ممثلي قطعات الجيش المشاركة، حيث عادة ما يشارك في العروض آلاف الجنود ومئات المركبات والآليات وتحلق عشرات الطائرات في سماء الساحة الحمراء. تمر بعدها أفواج ممثلي مختلف قطاعات العمل والإنتاج والثقافة والرياضة والفنون ومختلف الإبداع الشعبي، مستعرضين أفضل منجزاتهم.
كادت أن تكون تلك الأعياد إحياءً لذكريات حرب عالمية مضت، ومضى معها الطاعون الفاشي إلى غير رجعة. أما في هذا العام فقد تعيَّن على أحفاد الجيش الأحمر أن يقاتلوا أحفاد البنديريين – النازيين الجدد وفرق الأزوف التي تُحضِّر من جديد لحرب إبادة ضد البشرية جمعاء، تنطلق من المختبرات الجرثومية- الوبائية في أوكرانيا، كما في عدد من بلدان الناتو. هذه القوى مدعومة الآن، للأسف، من قبل قوى عالمية قاتلت بلدانها ضد الفاشية والنازية، حيث أن شعوبها كادت أن تقع فريسة الوحش الفاشي – النازي. مع احتفالات هذا العام يتوجب استذكار تاريخ ما بعد الحرب من جديد.
بالنسبة للدول الإمبريالية كانت هزيمة ألمانيا النازية وتوابعها بمثابة نهاية فترة وجود التحالف المناهض لهتلر. في 17 مارس 1948، أبرمت خمس دول من أوروبا الغربية – بلجيكا وبريطانيا ولوكسمبورغ وهولندا وفرنسا – ما يسمى بميثاق بروكسل، والذي كان نصه الأساسي هو إنشاء “دفاع جماعي عن النفس”. وفي 4 أبريل 1949، أبرمت 12 دولة، من بينها الخمس المذكورة، والولايات المتحدة وكندا، وكذلك الدنمارك وإيطاليا (حلفاء الرايخ الثالث) والنرويج والبرتغال وأيسلندا، معاهدة شمال الأطلسي. وبإيجاز صاغ الأمين العام الأول لحلف الناتو، إسماي هاستينغز، الغرض من وجود المنظمة، بما معناه: “إبقاء الاتحاد السوفيتي بعيدًا، والأمريكيين في الداخل، والألمان في وضع التبعية”.
لكنه، وبالذات في ذكرى يوم النصر – 9 مايو من العام 1955، تم قبول ألمانيا الغربية في الناتو، أي أنه انتهاكا لجميع الاتفاقات السابقة للدول الأعضاء في التحالف المناهض لهتلر، جعلوا الدولة التي بدأت الحرب العالمية الثانية عضوًا في الكتلة العسكرية. والحقيقة أنه حتى قبل ضم ألمانيا الغربية كان الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين محقا عندما سخر من إعادة تكرار التأكيد على “الطبيعة السلمية” لحلف الناتو بعد انضمام تركيا إليه عام 1952.
إذن، فلم يكن حلف الناتو سوى خلطة ضمت الدول الإمبريالية التي حاربت الفاشية والنازية، والدول الإمبريالية مصدر العدوان الفاشي – النازي، بدون الإتحاد السوفياتي وضد الاتحاد السوفياتي، الذي حسم الحرب، مخَلِّصاً البشرية من الطاعون الفاشي النازي للقرن العشرين. أما في بداية القرن الحادي والعشرين، وبدءا من عام 2004 جرى “التوسيع الخامس للناتو” بضم ليس دول أوروبا الشرقية الإشتراكية السابقة فقط، بل وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة.
أدركت روسيا بعد هذا أن الهدف أصبح تطويقها وتفتيتها، إن لم يكن تدميرها. وفي خطايه الشهير عام 2007 في ميونيخ قال فلاديمير بوتين : “لدينا حق عادل في أن نسأل بصراحة: ضد من هذا التوسع؟ وماذا حدث للتأكيدات التي قدمها الشركاء الغربيون بعد حل حلف وارسو؟ أين هذه التصريحات الآن؟”.
وعليه، فلا غرابة أن نجد اليوم حلف شمال الأطلسي (الناتو) بقيادة الولايات المتحدة الأميركية السند القوي الداعم للنازية الجديدة للقرن الحادي والعشرين في محاولة للإبقاء على عالم القطب الواحد الذي استنفذ موضوعيا كل إمكانيات بقائه. ومن الطبيعي أن تتمسك البشرية بحلمها العادل بعالم بلا وظلم ولا عدوان، تظلله رايات السلام والأمن والعدالة والتعاون من أجل التنمية.