النسيان أن تخز إبرة الذكرى قماش قلبك ولا توجعك.. فالذاكرة البشرية هي كائن خفي لا يبعث رحمته غالباً بقدر ما يكون الظل لمسخٍ مشوّه والجلاد في الوقت نفسه.
يقول الكاتب الفرنسي وأستاذ الفلسفة جيروم فيراري في مقدمة روايته “حيث تركتُ روحي”: ما كان يهمني في هذه الرواية، هو النظر في كيف يجد الإنسان نفسه، في وضعية تسمح له بممارسة التعذيب على الآخرين. فهل ينصف كل من تعرض للظلم المظلومين بعد تحرره من قيود الظالم؟ وماذا عن أرواحنا التي نسمع هشيمها المذوي تحت بلدوزر سلوكنا اللا إنساني بحق الآخر؟ وهل يتحوّل ببساطة ضحايا اليوم إلى جناة الغد؟
قدم فيراري في هذه الرواية دراما سردية كثيفة أشبه بوثيقة تاريخية، فمن حيث البناء الروائي وتسلسل الأحداث والانتقالات الزمنية تمكن من جعل القارئ يتماهى معه عميقاً في مساورة سيكولوجية وفلسفية لأزمنة ومدن مختلفة عبر لغة رشيقة تستعين بتقنية “الفلاش باك”. فما بين ذكريات يستعيدها الملازم “هوراس أندرياني” وذكريات يحاول النقيب “دوغورس” الفرار منها تتواتر الأحداث على هيئة رسائل أو مذكرات -مقسمة الزمن الظاهري للكتابة لثلاثة أيام ولكن الزمن الفعلي للحدث يمتد لنحو من 40 عاماً-. إذ استحضار الملازم للذكريات التي جمعته برفيقه النقيب دوغورس، جعل أحداث هذه الرواية تسير في أزمنة وأماكن مختلفة. أبرزها الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي، ثم الجزائر في بداية العشرية السوداء.
تدور الرواية حول ضباط فرنسيين عُذبوا طويلاً في المعتقلات النازية ثم عانوا الأمرين من السجن ووجبات الذل والهوان في “فيتنام- الهند الصينية سابقاً”، ليتغيّر بعدها منحنى الحياة ويصبح الضحية جلاداً، ويقبع السجين أمام القضبان فيتحوّل إلى سجّان عبر انتقال الضباط الفرنسيين للخدمة في الجزائر أثناء حقبة الاحتلال الفرنسي لها في الفترة الزمنية “1830-1962”.
يرى الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز أن الإنسان يحمل الشر بفطرته الطبيعية، وبأن عقبات الحياة تعد اختبارات حاسمة لقياس مدى إنسانيتنا. فماذا لو كان الاختبار الحقيقي الذي نواجهه هو تسلم منصب يمنحنا سلطة مطلقة؟ منّا من يروقه السير مع أمواج الحياة بمدها وجزرها مثل “الملازم أندرياني” فلا يكلّف نفسه عناء السؤال ليجسد عبر سلوكه مكنون الشر الفطري للإنسان. ومنّا من ينهك روحه المعذبة بالأسئلة دون جواب مثل “النقيب دوغوروس”، والذي تحوّل فيما بعد إلى أداة تنفذ مآرب السلطة علناً في الليل وتلعنها سراً في الصباح الباكر، السلطة التي قال عنها رولان بارت: السلطة تسخر كل الأشياء من أجل خدمة مصالحها. إذ نجحت السلطات الفرنسية في سلب روح النقيب وحرمته من حق الإدراك الذاتي وحق الندم على سوء أفعاله تجاه المعتقلين الجزائريين من أعضاء جبهة التحرير الوطني، وحوّلت رغبة الجنود بالحياة إلى توقهم من أجل التضحية غير المجدية ليصبحوا على يقين حتى بأن الإحساس خيانة والشعور بالآخر جرم بحق الدولة، الدولة التي هيكلها الأول الإنسان الصناعي، رغبةً منه بتخليصه من الحروب التي خربت دياره ولكنها ما أن أمسكت بزمام الأمور لتتمكن منه عبر إقحامه في حروب أكثر دموية، وسرعان ما تحوّل الصراع الفردي إلى صراع جماعي متمثلاً بدولة ضد أخرى، وتحوّل الإنسان إلى مجرد رقم في سجلاتها ومانشيت في جريدة أو خبر عاجل يعلن تضرج دمه نشرة الأخبار.
في الرواية مقاربة تأملية لمفهوم تجرد الإنسان من إنسانيته، بأن يتجاوز كل القيّم والمعايير الأخلاقية لبلوغ هدف لا يؤمن به. استوحى كاتب الرواية بعضا من شخصيات وأحداث الرواية من أحداث حقيقية إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر، مثل ذلك المشهد الذي يقبض فيه على أحد شخصيات الرواية “طاهر” وتُلقى عليه التحية العسكرية قبل تسليمه، الذي استلهم تماماً من حادثة القبض على المجاهد العربي بن مهيدي، من مقطع لضابط فرنسي سابق، مستذكراً الأماسي التي أمضاها مذهولاً بالعربي بن مهيدي إبان اعتقاله واعترافه أنه قبل تنفيذ الإعدام ألقى تحية جزيلة مع مفرزة صغيرة من الجيش تعبيراً عن الإعجاب بشجاعته وصموده تحت وطأة التعذيب الذي لم يدفعه أن ينطق بحرف واحد.
إن النكبات المستمرة التي تخوضها الشعوب تجعلها تنسى من تسبب لها بالدمار الأسى ولا تفكر سوى بمشكلاتها الراهنة، فحتى المشاعر قد تتغيّر بمرور الوقت فيغدو المحتل/ العدو بنظر المتنفذين صديقاً حميماً.
ما أن تقرأ عبارة الملازم هذه “كل شيء لا قيمة له سيدي النقيب، كل شيء يُنسى بسرعة كبيرة، دماؤنا والدماء التي أرقناها مسحها منذ فترة طويلة دم جديد و سيأتي بعده دم آخر”، تستشعر ألماً فادحاً يوازي البكاء لرخص قيمة الإنسان ودمه المسفوح تحت ويلات الحروب. فحين زار الملازم أندرياني الجزائر بعد سنوات من انتهاء الاحتلال الفرنسي، ذهب إلى الأمكنة التي لونتها ذاكرته قانيةً بدماء الجزائريين، وعبر بالمطار الذي يحمل اسم أحد أعداء الأمس القريب دون أن يسمع همساً لعتب عما ارتكبه بحق الجزائريين من جرائم شنيعة. بل رحبوا به واحتسى الشاي المعتق في أحد بيوتها، لتهلل زغرودة الدم التي تهب الإنسان أن يكون مرتعاً للنسيان!
حيث تركتُ روحي” رواية من أدب السجون ولكنها تروى بلسان الجلاد لا الضحية، الجلاد الذي سينسى روحه في لحظة ويظل يبحث عنها أبد الدهور: “فقدتُ منذ زمن بعيد الحق في التضرع إليه، إلّا أنّي أصلي له، أريد منه فقط أن يسمح لي بالعودة للحظة واحدة فقط.. حيث تركتُ روحي”.