“حرب”. هذه الرواية تصدرت مبيعات موسم الربيع في باريس. نهاب من كتابة اسم لويس فرديناند سيلين للعلن لما سببه هذا الكاتب من فوضى عارمة في الشارع الفرنسي قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الثانية. عرف بموقفه المعادي للسامية وبلغته العنيفة في الكتابة التي يصفها البعض “بالسوقية” والبعض الآخر “بالجريئة” غير المبالية. نسبة كبيرة من القراء تكره سيلين، ونسبة كبيرة من المثقفين والكتاب تحبه، لا بل وتعتبر من لا يحبه غير واعٍ بالرسالة الواقعية للحرب التي يقدّمها للعالم من خلال كتاباته. لا ننسى عبارته الشهيرة: “أصبت بداء الحرب في رأسي، داء لا يريد مبارحتي”. قد نعتبر سيلين أكثر الكتّاب المتأثرين بما خلفته الحرب من بشاعة وجمال في ذات الوقت، وفكرة الموت ظلت تأسره طوال حياته.
مرّ على وفاة سيلين واحد وستون عاماً، ذوّب النسيان الضجة التي أحدثتها كتاباته، إلا إنه ومع الحرب الروسية الأكروانية، تمت إعادة كتابات سيلين الى الرف بعد العثور على ما يشبه السيرة والرواية، مخطوطة أدبية تتضمن مائتين وخمسين صفحة تدعى “حرب”. تدور أحداث القصة في مدينة فلاندرز البلجيكية خلال الحرب العالمية الثانية، وتأخذ القارئ في رحلة بين الخيال والسيرة الذاتية، نواكب من خلالها رحلة نقاهة العميد فرديناند من اللحظة التي استعاد فيها وعيه في ساحة المعركة حتى مغادرته إلى لندن، بعد أن أصيب بجروح خطيرة. نتابع ما يعيشه العميد من أحداث في المشفى وهو المكان الذي يشكل نقطة العبور أو الحاجز إن صحّ القول بين الحياة والموت، فنتعمق في ذكرى الحرب من خلال شهادات المرضى من الجنود والمدنيين. يتعرف العميد خلال فترة مكوثه على نقيب يدعى بيبيرت، ويقرر الاثنان خداع الموت وتحرير أنفسهم من المصير الذي فرض عليهم، بحوارات شيقة عن ماض مخمور بالنسيان ومستقبل يتوجب العثور عليه قبل فوات الأوان. مؤثرة تلك المحادثات التي قد تجري في مكان تبغضه الروح والنفس في وضع حرب. ماذا يمكن للمستشفى أن يصنع من حكايات ؟
فكرة الموت في الحرب لا تنفك عن العبث في عقل سيلين، ورواية “حرب” تقع عند مفترق طرق أول روايتين له بين “رحلة في أقاصي الليل” و”الموت بالتقسيط”. ربما يُشكّل المشفى رحلة ترميم ذاتية كان يحتاجها الكاتب للعودة للفكرة ذاتها، فالكاتب يدور بشكل أو بآخر في نفس المجرة الفكرية. يعتقد بأن الموت حقيقة الرجال في هذا العالم، وبأن الحياة ليست سوى سكر واستفاقة حزينة على ذات الحقيقة: “الموت”.
وكأنما كل قطرة من دمائنا مليئة بالكذب عدا قطرة واحدة فقط تفضل حلمًا أكبر من الأرض، فالدنيا لا تسع سيلين لكثرة حروبها الشنيعة؛ هو الذي يريد أن يوبخ مفتعل الحرب بأبشع الطرق، ومداواة الناس من بشاعتها. في رواية “رحلة في أقاصي الليل”، يروي البطل تجربته في الحرب العالمية الأولى، والاستعمار في إفريقيا، والحالة الاجتماعية والنفسية الخاصة بالبشر، ويسرد ما رآه من عدم كفاءة ونفاق رؤسائه في الخنادق، وكيف شكّلت الحرب نهاية براءته ونزوله الى الجحيم دون عودة، وكيف قرر بعد ذلك كله ترك كل شيء والإتجاه لمهنة الطبابة والعمل على خدمة الفقراء في ضواحي باريس. ما يدعو للسخرية، لجوئه الى الهرب من الموت في أحد أماكن صناعته.