كان لافتاً ومعبراً شعار “البحرينى قرار وليس خياراً” الذى رفعه اتحاد عمال البحرين فى حفله السنوى الذى اقامه فى 28 مايو بمناسبة يوم العمال العالمى تحت رعاية جلالة الملك، وكان لافتاً أيضاً تأكيد مجلس الوزراء قبل ذلك بأيام، وتحديدا فى جلسته المنعقدة فى 26 ابريل وفى شأن ذات المناسبة بأن “المواطن هو الخيار الأول فى سوق العمل”، وبين العنوانين، أو الشعارين، أو الهدفين، او الهاجسيّن، والرابط المشترك، نتوقف امام هذا الملف المتشعب الذى بات بحاجة الى استنفار على درجة عالية من الوعي بواقع الحال، والحس الوطنى والارادة والادراك بالحقائق والأخطار الصارخة والكف عن اعتماد سياسة النعامة ..!
علينا بادئ ذى بدء الإشارة إلى ملاحظة تتصل بالشعار المذكور، إذ كان بودنا أن نجد فى الكلمات التى أُلقيت فى تلك المناسبة من يوضح لماذا هذا الشعار، وماذا يعنى، وما هي موجبات تبنيه ورفعه، وما هى التحديات والحقائق التى تقف ولا تزال تقف بوجه الوصول إلى هذا الهدف، كان بودنا ذلك، كما كان بودنا أن يعي كل المعنيين بأن هناك من شبابنا من أعياهم الانتظار، طوابير طويلة تزداد طولاً واتساعاً على الدوام، فى انتظار بارقة عمل وأمل، وهذا حق لهم وليس منّة او منحة، والواجب يقتضى أن لا يكونوا فى سوق العمل مجرد خيار، هذه هى الخلاصة المعبّرة التى تثبت بالملموس مدى الحاجة إلى التأكيد عليها، هنا، فى هذه الحالة نكون قد حققنا إنجازاً يعتدّ به بعيداً عن أي شكل من اشكال التضييق على أبناء البحرين بذريعة حرية سوق العمل، أو جعلهم الخيار الأول فى هذا السوق فيما اتجاه هذا الخيار معاكساً.
يعلم الجميع، كل الجهات والقوى أن ما هو مطلوب حيال هذا الملف إرادة بحرينية جامعة تكون الآلية الفعالة لبلوغ هذا الهدف كما يجب دون تشابك الأهداف والمرامي وتختلط إلى درجة تبقينا فى دائرة المراوحة أو السير المعاكس لما يعلن من أهداف، ويعلم الجميع كذلك أنه لابد إذا كنا جادين فى بلوغ ذلك الهدف من التخلص من المعيقات المرئية وغير المرئية، ومن ضمنها تلك التى يخلقها أصحاب المطامح والمطامع المستفيدين من غياب الحلول الفعلية والفعالة ولا يهمهم أين تكون البداية وإلى أين النهاية فى ما يخص التعاطى مع ملف البحرنة حتى وإن وصل الأمر إلى حالة كاملة من اليأس من بلوغ المعالجات الحصيفة التى باختصار تقتضيها المصلحة الوطنية .
تذليل ما يعترض هدف البحرنة من عقبات لن يتم إلا فى إطار إرادة سياسية حقيقية ترفع راياتها بوضوح ويلتزم بها الجميع، وتدفع وبحماس درجة التجانس بين كل الأطراف المعنية إلى الإلتزام الكامل بإعطاء البحرنة الاعتبار اللازم، والمكانة اللازمة، والمساندة الواجبة، التزام بكل معنى الإلتزام لتحقيق هذا الهدف الوطنى دون ضجيج او شعارات المراوحة الخالية من المضمون الحقيقي، والإلتزام المطلوب.
مؤسف جداً الإمعان فى استمرار حال المراوحة وتكرار الكلام المستهلك، منذ سنوات طويلة وحتى الآن والحديث يدور حول هدف سياسة جعل المواطن الخيار الأول فى سوق العمل، وهى السياسة التى أبقت مسألة البحرنة أقرب إلى الإلتزام الشكلي الخالى من المضمون، رغم الشعارات التى طرحت فى هذا السياق والتى تذاكى بعض المسؤولين وتشاطروا فى تردادها والترويج لها، ولأرقام يصدرونها على هواهم لا يمكن أن نشعر إزاءها إلا بمدى الحاجة إلى الشفافية والصدقية، يفعلون بمناسبة ومن دون مناسبة، لإيهامنا بأنهم يحققون انجازات باهرة على طريق توفير فرص العمل المطلوبة واللائقة للمواطنين، وانهم جديرون حقاً وفعلاً بكل ثناء وتقدير.
بناء على ما تقدم، وعلى الكثير مما أثير فى شأن ملف البحرنة منذ سنوات وحتى الآن، والكثير من التصريحات والبرامج والمشاريع والخطط التى مرّت علينا نرى أن ثمة ما يجب ان نتوقف عنده، ونؤكد عليه:
1- إن ملف البحرنة يستوجب وبشكل ملح أن يكون فى صدارة الملفات الوطنية، وهذا يتطلب تضافر جهود كل الجهات المعنية: موزارة العمل، وزارة التربية والتعليم، هيئة تنظيم سوق العمل ومجلس التنمية الاقتصادية ،وغيرها من الوزارات والجهات لتحقيق سياسة البحرنة والتعامل معها على أساس أنها أولوية وطنية مربوطة بتحقيق هدف ربط التعليم باحتياجات سوق العمل ومواكبة هذه الإحتياجات والمتغيرات، مع ضرورة تقييم السياسات التى اتبعت فى هذا المجال طيلة السنوات التى مضت، والوقوف على أوجه الخلل فى مخرجات التعليم، والتخلي عن فكرة أن إلزامية البحرنة قد تنّفر المستثمرين، او تضعف تنافسية البحرين فى جذب الاستثمارات، او التذرع بالحرية الاقتصادية .
2- تلك السياسة أطلقت يد الكثير من المؤسسات والشركات الخاصة فى تشغيل عمالة وافدة، بل إعطائها الأولوية وامتيازات لا يحظى بها العامل المواطن، خاصة فى مواقع العمل العليا، مع وجود نسب متدنية جداً من العمالة الوطنية لإعتبارات تفرض نفسها، مع ملاحظة وجود العديد من الإدارات فى العديد من الشركات يسيطر عليها غير بحرينيين وعوائلهم، وما تم تداوله ونشره من وقائع مريرة فى هذا الشأن كفيل بإعادة النظر وعلى وجه السرعة فى هذه السياسة.
3 – الحرية الاقتصادية وجذب الشركات الأجنبية والمستثمرين إلى البحرين لا يعنى بأي حال من الأحوال التفريط فى أحقية أبناء البحرين فى فرص العمل وضرورة إعطاءها الأولوية الفعلية فى سوق العمل، وجعلها إما عمالة هامشية أو سائبة، وإذا كانت البحرين قد خطت خطوات متقدمة على صعيد حماية حقوق العمال الوافدين، وهو أمر مرحب به دون ريب، فإنه لا بد وبشكل موازٍ من المحافظة على حقوق العمالة البحرينية، وحق العامل الوطني.
4 – إن هناك قرارات فاقمت من الإشكاليات التى تواجه سوق العمل، وعمقّت من حجم البطالة فى صفوف المواطنين، ومنها قرار إعطاء العامل الأجنبي الحق فى الانتقال إلى صاحب عمل آخر، وإلغاء نظام الكفيل، ونظام البحرنة الموازى الذى سمح بمبادلة تشغيل البحرينيين بعمالة غير بحرينية نظير رسوم محددة يدفعها صاحب العمل، وتصحيح أوضاع العمالة المخالفة خاصة من خلال التأشيرة المرنة، وكلها القت بضلالها السلبية على تقليل فرص العمل امام العمالة الوطنية، ولكن تأثيراتها السلبية امتدت الى قطاعات من اصحاب الأعمال .
5 – لابد من الإقرار بغياب رؤية واضحة الأهداف والمنطلقات لأي خطط واستراتيجيات طرحت بهدف توفير المزيد من فرص العمل أمام البحرينيين، بما فى ذلك معارض التوظيف التى تتبناها وزارة العمل، وكذلك الافتقار إلى منظومة تعليمية فاعلة تتواكب مع متغيرات سوق العمل، وهذه إحدى أهم المشكلات التى تواجه البحرين، كما لابد من الإقرار ثانياً بوجود منتفعين بل و”لوبيات” تستفيد من كل التشوهات وأوجه الخلل القائمة فى سوق العمل لم تطلهم يد القانون.
كما لابد من الإقرار، ثالثاً، بافتقار الكثير من الأرقام إلى الدقة والموثوقية، وحتى التضارب فيما بين أكثر من جهة رسمية، وهذه مسألة لفت اليها المنبر التقدمى فى بيانه الصادر بمناسبة عيد العمال 2022 حيث أشار كمثال إلى وزارة العمل التى أعلنت عن توظيف أكثر من 25 الف عاطل عن العمل فى عام 2021 بينما تتحدث التقارير الاحصائية لهيئة التأمينات الاجتماعية عن إنضمام 6820 مستجد، ما يعنى أن ما يقارب من 18000 مواطن على الأقل، وهم المسجلون فى الوزارة فقدوا أعمالهم فى ذلك العام، أو حصلوا على وظائف جديدة، مما يشير إلى عدم استدامة العامل البحرينى فى عمله، بينما وزارة العمل توهم الرأي العام بأنها خلقت 25000 وظيفة، وفى ذات الوقت تشير البيانات ذاتها إلى 47822 مستجد من غير البحرينيين فى سوق العمل، وهناك عشرات الأمثلة لعدم جديّة وزارة العمل فى التعامل مع ملف العاطلين عن العمل، وهو احد شواهد الحاجة إلى مراجعة شاملة لسياسات العمل.
6 – من المصلحة التأكيد مرّة ومرّات على أن معالجة البطالة فى البحرين تتطلب التشخيص السليم للمشكلة، وجديّة ومؤاءمة مخرجات التعليم، وتبنى حلول جديدة ومبتكرة لمعالجة المشكلة، وتعزيز الثقة فى الشباب البحرينى والعمل بشعار البحرينى الخيار الأول والأفضل للتوظيف، وقبل كل شئ توفر إرادة سياسية حقيقية تترجم على أرض الواقع.
7 – هناك العديد من الأسئلة والتساؤلات المهمة المثارة حول هذا الملف لم تجد من يجيب عليها اجابات صحيحة، لا اجابات مقنعة ولا مبهمة أو مراوغة، من نوعية: لماذا التضارب فى أرقام البطالة وأرقام تشغيل البحرينيين؟، ولماذا يسمح لموظفين غير بحرينيين فى وظائف حكومية لمدد تمتد إلى نحو 30 عاماً؟، لماذا الإصرار على الإبقاء على المستشارين والخبراء غير البحرينيين فى مواقع لا تحتاج إليهم فعلياً، ولماذا لاتحدد مدد توظيفهم فى الأجهزة الحكومية، ولماذا لم تجرى عملية تأهيل وإحلال بحرينيين محلهم؟
8 – على صعيد لجنة التحقيق البرلماني فى ملف البحرنة فى القطاعين العام والخاص التى تشكلت فى 26 فبراير 2020 وأعلن بأنها اجتمعت خلال فترة عملها25 اجتماعاً ولقاءً، والتقت ب ” 42 ” جهة حكومية ومؤسسات مجتمع مدنى، وقامت بتسع زيارات ميدانية، ووضعت 37 توصية بعد تقرير ضمّ 4287 صفحة، وأوصت باستجواب خمسة وزراء وهم وزراء العمل، وزير التربية والتعليم، وزير التجارة، والوزير المسؤول عن ديوان الخدمة المدنية، لماذا لا يعلم أحد حتى الان عن أي نتائج فعلية لهذا الجهد ..؟!، فقد انتهت مدة البرلمان ولم تنته حالة الغموض التى رافقت عملية التحقيق البرلمانية ومخرجات هذا التحقيق، كل ما نعلمه أنه لم يحدث أي استجواب، ولم تعلن الحكومة عن خطط واستراتيجيات جديدة تعكس تبنيها فعلياً لتوصيات اللجنة ولمقتضيات إعادة الإعتبار للبحرنة فى سوق العمل، وللاحاطة والتذكير فإن البيانات والأرقام التى طلبتها لجنة التحقيق البرلمانية أعلن بعض النواب أنها غير متناغمة.
المؤكد هو أننا أمام ملف لا يجوز السكوت عليه، وعدم التعاطي معه كما يجب، ونستمر نلمّع الموبقات التى يزخر بها، والاستمرار فى طرح أرقام غير موثوقة ولا تصدر عن جهة محايدة الهدف من وراءها تحويل كل الاخفاقات إلى انجازات وشعارات دون احترام لعقول البشر، وظللنا نتداول هذا الملف ونتردد ليس فقط فى إزالة المسالك الوعرة فحسب، بل بإزالة أسبابها، وجعل مصلحة الوطن فوق كل مصلحة، وإلا فسنبقى فى دائرة المراوحة إلى ما لا نهاية، وهذا أمر يجعلنا نسير على الرمال المتحركة وبآمال بالغة الهشاشة، وهذا خطأ فادح بكل معنى الكلمة ..!