لا شيء يتغير يا لوركا

0
49

“الخيط والإبرة للنساء، وسير السوط والبغال للرجال”.

بيت برناردا ألبا

حدث في وقت قريب؛ حوار حي بين صديقتين مقربتين حول عدم دعوة إحداهما لحفلة زفاف، أجابت الأخرى بثقة: لئلا يكون هذا مدخل عذاب أو تجريح لكِ! وهي إجابة، بعد كونها صادمة، غريبة من حيث حمولتها، والسبب المتخيل لهذه الفكرة التي لا بد أنها ليست عابرة، بل وتحمل تاريخاً من الأفكار المتراكمة، مرجعها إلى كون السائلة عزباء، والأخرى متزوجة! لذلك كان من اليسير تفسير أن مكمن العذاب من وجهة نظر الأخرى: حضور العازبة لحفلات زفاف، أو أي نشاط في محيطها، يذكر الأولى بوضعها الاجتماعي المأسوف عليه! نستغرب طبيعة هذه الأفكار، ولوهلة قد يفترض البعض أنها من وحي الخيال حين نقرأها أو نسمع عنها. ما لا ندركه أن أفكار هذه “الأخرى” موجودة وكامنة، لكنها قد لا تستعمل في وجود المعنيات بالمسألة، سواء كانت حالة العزوبية، أو أي وضع خرج عن المخطط “التراتبي” للمجتمع، فاستحق أن ينظر إليه بعين الاختلاف غير المرغوب فيه، لأنه اختلاف مقرون بانتقاص! ومرة بعد مرة يوقد موضوع: لِمَ الأنثى محصورة في هذه الدائرة الضيقة البائسة، بحيث يتم تقليص دورها في الحياة والاستخفاف به؟ خصوصاً إذا أتت هذه النظرة غير الإنسانية من قبل أنثى مثلها.

وقد تتشابه المجتمعات التي تدفع الكتاب والمؤلفين لابتكار نصوص تصور جزءاً من هذا الواقع ليكون شاهداً حياً مع مرور الوقت، ولن يكون التشابه لمعاملة الأنثى -بنفس الموقف المذكور وغيره- وترتيبها مجتمعياً مفاجأة يدهش لها المتلقي بين مجتمع وآخر، حتى مع مرور الوقت. فعدد الكتاب الذين استعرضوا الوضع/ المعاناة/ استجابة الأنثى للضغوط التي تتعرض لها، ليس بالقليل. وسواء كانت ضمن دور رئيسي، أو في سياق الحدث، فكلها وثقت للمجتمع الذي حصل فيه الحدث كشاهد على العصر، كما فعل الكاتب الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا (1898-1936م) الذي يكاد أن يتبنى في نصوصه المسرحية قضايا المرأة بأشكالها المتعددة، في مقارنة المجتمع الإسباني في بداية القرن العشرين مع المجتمع العربي المعاصر، بدءاً من العناوين التي تحمل أسماء بطلاتها/ محركات الأحداث أو الشخصيات الرئيسية التي تدور حولها الأحداث. 

أخذ لوركا على عاتقه تصدير شخصيات من مجتمعه القروي الذي زخر بهذه النماذج: “يرما” التي تعارك قدرها ونفسها والمجتمع الذي يرجمها بالقول كل حين لأنها الأنثى “البور”، غير الحاصلة على لقب الأمومة المقدر بشدة في بيئتها التي تصب كل اللوم عليها بوصفها “العاقر”، أو “روزيتا العانس” والذي يكفي لمعرفة النوع والحالة وفي النص تتضح التفاصيل التي تبرز معاناة الأنثى، لأنها اختارت، أو شاءت الظروف ألا تتزوج فتصبح حياتها “قالباً مثالياً” كما الأخريات اللاتي يتباهين بإنجاز هذه الخطوة، وبيت “برناردا ألبا” حيث الأم التي تورث لبناتها ما ورثته في تقديس العادات والتقاليد، حتى لو تنافت مع الطبيعة الآدمية واحتياجاتها، مما يؤدي إلى صدام متوقع، وكذلك نص “عرس الدم” الذي استخدم القضايا الاجتماعية في توضيح ما تتعرض له الأنثى من ظلم بيّن تساهم فيه كل الأطراف. كل هذه النماذج وغيرها تقع ضمن هيمنة التقاليد الذكورية؛ بشخصها، أو صفتها التي تسبغها على المجتمعات التي تحكمها الأعراف بالمقام الأول.

هيمنت الأعراف والتقاليد على نصوص لوركا الأربعة المذكورة، والمكتوبة في أوقات متقاربة، والتي تسيطر على المجتمعات الريفية الإسبانية، وغيرها من المجتمعات الصغيرة في كل مكان، اكتسبت فيها العادات شكلها الشرعي من الاستمرارية، وتناقل الفكرة دون تفحّص، جيلاً بعد جيل، بل بمزيد من الإضافة المتطرفة. ومع الوقت أيضاً، سيطر العرف على القانون والدين، وتحكم بالمجتمع بلا أي وجه حق، سوى ما ورث عن الآباء والأجداد، وكأنه إمعان في الارتباط بالجذور التي لا جدوى منها. لأن تحليلاً بسيطاً لأي عرف تحول إلى تقليد، في أي مكان، أساسه غالباً غير منطقي، لكن الوقت والاستمرارية جعلت منه ناموساً، والخروج عنه تمرد ومخالفة غير محمودة العواقب، ولأنه أيضاً، إذا نجا الفاعل، فلن ينجو من له صلة به في دائرة نفس المجتمع.

وكما عكست نصوص لوركا المذكورة أوضاع الريف والمناطق الصغيرة الإسبانية التي تسود فيها الأعراف، وهو المكان الأنسب للتطبيق بدون خوف من مساءلة أو سلطة خارجية في هذا المجتمع المغلق؛ عكست أيضاً طبيعة ناسها: في ضيق أفقهم، وقلة حيلتهم، أو “حيلتهن”؛ حيث التركيز على إناث لوركا في أحداث مثل نص “عرس الدم”، والتي قدمها في ثلاثينيات القرن الماضي، كما باقي نصوصه محل التحليل. وقد عبر في “العرس” عن الأحداث الضيقة التي حصلت بين عائلتين، بينهما عداوة دم ممتدة، لا يأتي المؤلف على ذكر سببها، وبالتالي لا يسأل شخوصها لِمَ هذا العبث في سلسلة القتل الممتدة حتى تفرق بين قلوب أحبّت بعضها، رغم المحاذير الاجتماعية التي تمنع أن تختلط الدماء؟ ألا يذكرنا هذا الثأر بهذا الممتد في مناطق الصعيد التي تظهرها الدراما المصرية، والأخبار في بعض الدول العربية حتى الآن، وكيف أنها مغامرة عبثية لا تنتهي إلا بمعجزة إلهية، وبعض العاقلين؟ وقد يكون الثأر في مناطق محددة من بلداننا التي تحب أن تحيي ماضيها وتعيش فيه. لكن يبدو أن لوركا لما كان يقرأ قضايا مجتمعه في ذاك الوقت المبكر، كان يستشرف الحالة العربية الراهنة، كون الثأر ليست القضية الوحيدة التي تخصنا، بل من اللافت جداً تركيزه على القضايا التي تخص الأنثى تحديداً، في ما يتعلق بتطبيق العادات والتقاليد والأعراف الحادة. فهو يربط مثلاً الأنثى وحدها بمفهوم الشرف تحديداً في حديث الأم مع بقية شخوص المسرحية، والتي تعكس الحالة العربية “الحالية”، بتطابق يجعل من الأنثى مفتاح الشرف لعائلتها، وكل من ترتبط بهم بصلة.

لذلك، فإن آلية التحكم لدى برناردا في بيتها وبناتها ليست مستغربة في هذه البيئة المحكمة ذات القياسات الخاصة والمحددة جداً، وقرارها بالحزن هي وبناتها على زوجها ثماني سنوات، هي زهرة شباب بناتها اللائي يتطلعن للحب بطبيعة أعمارهن، وكأنَّ موت الزوج كان المسوغ المناسب لإحكام القفل أكثر وأكثر حولهن.

أيضا لا داعي لذكر براهين، لا تعدّ، حول إقران “العذرية” بالشرف، والاهتمام المنصبّ عليها كأولوية تفوق كل الأولويات، وتأكيد برناردا أن ابنتها أديلا التي دخلت في علاقة غير سوية مع خطيب أختها الكبيرة بأنها “ماتت عذراء”، وكأنَّ أي سبب آخر لا يهم، حتى الموت نفسه. وكأنَّنا بلوركا يقرأ الوضع المعاصر في مجتمعاتنا العربية التي تشكو ضيق الأفكار والأفق، وكأنَّ التطور الذي يحدث في العالم لا يعنيها. كم من جريمة حدثت بقتل أخ لأخته -الأقوى والأضعف بطبيعة الحال- بسبب مجرد “شك” في سلوكها، أو تجاوز بسيط لمعايير المجتمع حسب رؤيتهم. وحتى لو كان تجاوزاً كبيراً، فلابد أن لكل شيء حلاً أقل من زهق روح إنسان. أما الأقسى من الجريمة نفسها، فهو التصفيق والمباركة التي يحصل عليها الجاني، حتى ولو عوقب بالقانون جراء ذلك، من غسل العار “المتخيل”.

أما “يرما” بطلة نصها، المكلومة في أنوثتها قبل أمومتها، لأن العيب يطالها هي بدون الحاجة للتأكد أو إعادة النظر، فإن بيئتها تمنعها من إقامة علاقة طبيعية، جنسية، مع الزوج، طالما أن الهدف ليس الإنجاب! وبينما يقتلها الحنين لأن تلمس طفلها يوماً ما، لا يفكر زوجها إلا بمن سيكون يداً عاملة تتبعه ويستفيد منها! وبالمقابل، بعض البيئات العربية لا يمكن أن تقل قسوة عن مجتمع “يرما”. فالزوجة مجرد “وعاء جنسي”، إن لم يصلح؛ يباح للزوج التعدد حتى يأتي من يحمل اسمه واسم عائلته – في مجتمعات الخليج خصوصاً التي اعتاد فيها الزوج استخدام هذه الرخصة حتى من غير مبرر الإنجاب -، وربما هو حق مشروع لمن يرغب أن تكون له ذرية وامتداد في الحياة. 

لكن ماذا لو كان الوضع معكوساً، وظهر أن الزوج، لسبب ما، غير قادر على الإنجاب، أو حتى ممارسة العلاقة الزوجية، وأرادت الزوجة أن تنفصل من أجل الزواج بآخر، والإنجاب؟؟ إذا استطاعت أن تخرج سالمة من هذه العلاقة، فلن تستطيع أن تنجو من المجتمع الذي سينهك روحها من الاتهامات الباطلة التي تنعتها بالأنانية، وعدم الصبر والرضا بالقدر. الأعراف تمتنع عن مساواة شعور فردين من البشر، لا شيء، إلا لكون أحدهما ذكراً، والأخرى أنثى، مصابة في جنسها بالوراثة عبر التاريخ.

هذه بعض القضايا التي التمسها لوركا الأسباني قبل ثلاثة وثمانين سنة على وفاته، ومازالت عجلة تنبؤاته تنبت هنا وهناك، جذورها ضاربة في العمق، وأشواكها تكثر وتتعقد كلما تقدمت مجتمعاتنا ظاهرياً، وبقيت نماذج هذه “الأخرى” كأنها إحدى بطلات قرية “فونتي فاكيروس” التي عاش فيها الشاعر، ومات، متيقناً أن لا شيء يتغير طالما أن هناك ثوابت في النفوس لا تتغير، مهما ادّعت ذلك.