لم يسقط التابوت

0
39

في صباح يوم الأربعاء الموافق 11 أيار/مايو 2022 بُث خبر استشهاد المراسلة الميدانية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة إثر طلقة مباشرة في الرأس من أحد قناصي قوات الإحتلال. كان الخبر صادماً لنا، لجيلنا الذي  تربى وكبر على سماع المراسلة شيرين منذ ما يقرب العقدين من الزمن وترسخت في ذهنه جملتها الشهيرة: “كانت معكم شيرين أبو عاقلة، الجزيرة، فلسطين المحتلة” رصاصة واحدة نالت من ذكريات جيل تربى على حبّ فلسطين ومتابعة أخبار مايحدث في الديار المحتلة أولاً بأول وبشكل يومي، ولم تكن شيرين مجرد ناقلة للخبر إنما كانت إنسانيةً تعيش مع المنكوبين مآسيهم.

رَوَت إحدى السيدات من جنين، وهي امرأة كبيرة في السن كانت تبكي متأثرة باستشهاد شيرين، كيف أن شيرين،  وفي ذروة اجتياح قوات الاحتلال لجنين أيام انتفاضة الأقصى وقفت معها وساعدتها في استخراج أبناءها من أنقاض المباني المهدمة جراء القصف العنيف، وتقول: حتى أن شيرين قد اتسخت بالكامل وتمزقت بعض أطراف ثيابها وأنها أعطت شيرين ثياباً من عندها لأن ثياب شيرين لم تعد صالحة. وأنهت حديثها وهي تبكي، زغردت وقالت:”قولوا الله قولوا الله، هَي شيرين مش حَيّ الله”. أن تكون في قلب الحدث لا يعني أنك تواجه المخاطر فقط، بل أنك الى جانب ذلك معنيّ أيضاً بالحالات الإنسانية التي قد تحدث أمامك.

شيرين ذلك الصوت الذي ألِفناه وهو ينقل لنا أحداث فلسطين واعتداءات المحتلين منذ كنّا صغاراً، في المساءات التي تحتدم فيها الأحداث نجلس مجتمعين أمام شاشة التلفاز نشاهد التغطية الإخبارية أولاً، ثم نشاهد برامج “سبيستون” التي تعلمنا من بعض برامجها أن للفلسطينيين حقاً مسلوباً، وحين نكون مسترسلين في اللعب مجرد أن نسمع صوت شيرين نوقف اللعب فتشرئِبّ أعناقنا نحو التلفاز لنعرف ما الذي حدث الآن هناك، أما الفتيات فلهن أحاديث أخرى، فيبدأ تهامسهن ما أن تظهر شيرين، يبدو أنها قد نحفت، يبدو  أنها لم تنم جيداً، يبدوا أن وزنها قد زاد قليلاً…الخ. مازلت أتذكر جيداً كيف كانت شيرين تغطي أحداث انتفاضة الأقصى من مخيم جنين واجتياح نابلس بكل شجاعة، لتفضح جرائم الإحتلال وتنقل جزءاً من معاناة الشعب الفلسطيني وتوصل صوته للعالم، الصوت الذي يحاول العالم كلّه إسكاته والقضاء عليه، لهذا كانت بحسّها الإنساني المرهف دائماً سبّاقة، دائماً في قلب الحدث، دائماً في الخطوط الأمامية للمواجهات.

كان يوم الجمعة الموافق 13 أيار/ مايو2022 الذي تلى استشهاد شيرين، الذي تقَرَر أن يكون فيه التشييع الرسمي لها، يوماً ملحمياً تاريخياً حافلاً بالمواجهات البطولية التي سطرها الفلسطينيون متوحدين، مسيحيين ومسلمين ومن مختلف المذاهب والتيارات، كانت شيرين هذه المرة هي صانعة الحدث والعالم كله ينقل مايجري، إنه يوم شيرين أبو عاقلة بكل ماتحمل الكلمة من معنى. كان مقرراً أن تخرج الجنازة من المستشفى سيراً على الأقدام الى الكنيسة مروراً بأحياء القدس القديمة وصولاً إلى المقبرة، مجلّلةً بأعلام فلسطين و أكاليل الزيتون وفي تابوتٍ بهيّ، إلا أن قوات الإحتلال الغاشمة هجمت على المشيعين واعتدت عليهم بشكل سافر غير إنساني في محاولة يائسة منها للنّيل من عزيمة المشيعين وإسقاط التابوت منهم، وحدث هذا أمام أنظار العالم حتى ظن أكثر المتفائلين أن التابوت البهيّ سيسقط لامحالة، ولكن ببسالة وإباء الفلسطينيين لم يسقط التابوت، ظل محمولاً على الأكتاف والأعناق رغم محاولة قوات الإحتلال إسقاطه بكل ما أوتيت من قوة، ولكن التابوت لم يسقط، و رغم سقوط الأجساد لم تسقط الفكرة، لم تسقط القضية، فلسطين لن تسقط أبداً…

بعد انتهاء القداس في كنيسة الروم الكاثوليك في القدس انطلق المشيعون من جميع المذاهب على وقع قرع أجراس الكنائس بالآلاف في تشييع مهيب جداً غصّت به أزقّة القدس وضواحيها رغم محاولات الإحتلال البائسة قطع الطريق عليهم حتى ظننا لوهلةٍ أن القدس قد تحررت.

كَتبَت في آخر تغريدة لها وهي متوجهة لتغطية مايحدث في جنين: “أنا ذاهبة الى جنين، سنوافيكم بآخر الأحداث والمستجدات من هناك”. للتو انتهت التغطية يا شيرين، وانتهت بفضيحة مدوية ووصمة سوداء أخرى لم تبقي نقطة بيضاء في صفحة الإحتلال. عندما يقتل الإحتلال الصحفيين عمداً ويختار المتميزين منهم فهو لايكترث بمقاتل أو مدني أو صحفي أو شجرةٍ أو حجرة. جسد شيرين المسجى الذي احتضنته الأرض لحظة سقوطه بقرب شجرةٍ أرى أن أغصانها مالت قليلاً لتمد أوراقها نحو شيرين حانيةً متأسفة، إنما هو اتحاد الأقانيم الثلاثة الإنسان، الجسد، الطبيعة، وكلها تلعن الغاصب المحتل. ولا عزاء لمرضى عقدة النقص الذين يحاولون بث سمومهم التي تأتي لتملأ الجو من نتانة ريح أنفاسهم وأفكارهم الماضوية المظلمة، رحم الله الشهيدة شيرين على أي دينٍ أو مذهبٍ أو فكرةٍ كانت.

“اخترت الصحافة كي أكون قريبة من الناس، ليس سهلاً أن أغيّر الواقع، لكن على لأقل كنتُ قادرةً على إيصال ذلك الصوت إلى العالم”. شيرين تفتح لنا الباب جميعاً ومع وسائل التواصل والأجهزة الحديثة لإيصال صوت كل إنسان مظلومٍ في أي مكان كان.

خالص العزاء لأهل شيرين وأصدقائها، وأسرتها العالمية، لروحها الطمأنينة والسلام.