مُدُن المِلح  (3)

0
59

“تقاسيم الليل والنهار”

الجزء الثالث من “مُدُن الملح” لعبدالرحمن منيف: “تقاسيم الليل والنهار” تقع في اربعمائة وواحد وخمسين صفحة كرسها للحروب البينية بين الأمراء ليبحث في عمق المشاكل التي تحصل بينهم ويستشرف مستقبل شبه الجزيرة العربية ليقول: “أمًا موران، هذه الصحراء الغارقة في الرمال والنسيان، فكان أمراؤها المائة يتنازعون أجزاؤها كما تتنازع النسور. كانت دولهم تكبر وتصغر وبعض الأحيان تنتهي”

وهو بذلك يؤرج لحالة كانت عليها الجزيرة العربية قبل تأسيس الدولة. في الحالات النادرة التي لا تحدث حروب أو غزوات يتنشق الناس عبير السلم، ينظم أبناؤها القصيد ويغنون وتتكرر سباقات الخيل وتخرج الصبايا إلى العيون دون خوف، حسب وصف الكاتب. في ذلك الزمان وبسبب التطاحن بين الأمراء فإنه لا يمكن لأميرين أن يجتمعا على عين واحدة للماء أو مرعى واحد. كانت بريطانيا هي من تدير الأمور فتدعم هذا الأمير أو ترفع الدعم عن الآخر لتخلق توازناً يراعي  مصالحها ويُؤبد بقاؤها في هذه البقة الغنية بالنفط، فكانت تتركهم يقتل بعضهم بعضاً، فليس لدى بريطانيا الوقت لأن تتعامل مع هذا العدد الهائل من الأمراء الصغار والشيوخ، فما كان منها الا أن تختار الأقوى بينهم، فاختارت خريبط لحماية طرق القوافل، وطلبت منه “مراقبة الجيران والأتراك وشواطئ البحر، من ناحية الشرق”.

وهكذا بدأت موران تمتد وتتسع، فكان لخريبط  مقولة أصبحت بمثابة استراتيجية حربية له، حيث كان يردد دوماً على مسامع رجاله المقربين: “ما تقدر على البدوان، أولاد الحرام، ألا بواحد من ثلاثة: الذهب أو السيف، أو جنة الخلد التي تجري من تحتها الأنهار”. عندها أصبحت موران دولة كبرى في تلك الصحراء مترامية الأطراف وتدين بالطاعة والولاء لخريبط “تدفع له الزكاة وتقدّم الجنود، وتصلى وراء الأئمة الذين بعث بهم إلى كل مكان.”


في هذا الجزء من خماسية “مدن الملح” يتطرق عبدالرحمن منيف إلى أحوال قصر الروض بعد أن امتدّ واتسع، وعلاقة السلطان خريبط بزوجاته والحمل والولادات بالبنين والبنات، والرهانات التي تحصل بين خدم القصر، والزيجات الجديدة وتأثيرها على باقي نسائه، والهمس والإشاعات المتداولة بخصوص تلك الزيجات. كل ذلك في وسط الحشد الهائل من الصغار والكبار. يصف عبد الرّحمن مُنيف قصر الروض بأنه شيْ عجيب: “عشرات الأجنحة والغرف التصق بعضها ببعض في آخر لحظة. على الجوانب غرف الحرس والخدم. في الوسط: البناء الرئيسي، وكان يشغله السلطان وثلاث من نسائه المقربات”..الخ. 

 هُنا يعرج مُنيف على وضع فنر وهو الأمير الذي توفت والدته وهو صغير، والدور الذي قام به والده في تقريبه إليه على حساب أخيه الأكبر خزعل الأقل فهماً ومعرفة وعلماً من فنر المقرب من بريطانيا. بريطانيا التي سهرت على تعليم الأمير فنر وتدريبه على فنون الحكم ودهاليزه  وخباياه من خلال  الوافد إلى موران البريطاني الجنسية هاملتون. فهاملتون كما يذكر لنا الكاتب “ليس واحداً، إنه الكثير في شخص، ومجموع الأشخاص في واحد”. فقد كان هاملتون بمثابة مستشار للسلطان خريبط وفي نفس الوقت همزة الوصل مع بريطانيا العظمى: “ساعات النهار تكفي لأن يتحدثا في كل شيء. كيف تفكر بريطانيا، وكيف يفكر أهل الصحراء، ماذا تريد بريطانيا الآن وفي المستقبل، وماذا يريد السلطان.”

إذن لا غنى للسلطان عن هاملتون ولا مبرر لهاملتون للابتعاد عن موران ومعرفة ما يدور فيها من أحداث وأهمية ذلك للأمبراطورية البريطانية، فقد تلاقت الإرادتان وعقدا العزم على تبادل المصالح فيما بينهما. بعد توطد العلاقة بينهما عهد السلطان لهاملتون العناية بابنه الأمير فنر، فما كان من الأخير الا أن أخذه في رحلة إلى بريطانيا ليُستقبل  في البلاط الإنجليزي ويحتفى به ويُكرم إضافة للهدايا  التي حُملت  اليه، كل ذلك زاد من أواصر الصداقة بين السلطان وهاملتون وزاد من التعاون بين البلاطين، اللقاءات بين السلطان وهاملتون كما يذكر الكاتب “كانت مزيجاً من الاستطلاع والاستفسار والعتب”.

استطاع عبدالرحمن منيف أن يرصد وبذكاء كافة الإرهاصات الموجودة في مجتمع الجزيرة العربية  من كل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفتحت روايته الأعين على كل ما يمكن أن يلمسه القاري في ذاك المجتمع من إيجابيات وسلبيات، هيأت الأرضية لقيام الدولة. ونتيجة لتلك الحروب والغارات اضطربت موران وبدات التحضيرات لجولة جديدة من الحرب مما ولدّ الخوف والفزع للنسوة من تجرع الجوع، وفقدان الأولاد والأزواج، وساد الهرج والمرج في قصر الروض نتيجة لذلك، فالأخبار متناقضة حول تلك المعركة المسماة الحويزة التي أعقبت معركة وادي الفيض، حتى إنّ هاملتون كان يتوق بشوق عارم للمشاركة في هذه المعركة لو سُمح له بذلك.

 فطوال تلك السنين بعد تلك المعارك لم تهدأ موران ولم تعرف الراحة فقد كانت في حركة دائمة، زيارات يقوم بها السلطان للقبائل، وعود وعهود  تعطى بسخاء لزعماء هذه القبائل، أموال توزع، كل ذلك من استعداداً لحروب جديدة بعد وضع الخطط اللازمة، حتى أن خطة التقدّم البطئ والحصار لم تعجب السلطان ليقول (البدو روحهم ضيقة، وتعوّدوا على الغارة، أما تعقلهم، بدون أهلهم، وتقول لهم اصبروا فظني أنهم ما يفهمونا ولا يتحملون، وهكذا من حملة لأخرى، وما أن يعمّ السلام  لفترة حتى تعود الحرب من جديد.

الغوص في أعماق المجتمع يتطلب معرفة ودراية ودراسة، وأعجب كيف استطاع عبد الرحمن منيف أن يجلو كل تلك التفاصيل حتى الصغيرة منها، كيف استطاع الدخول إلى نفوس شخصياته ومعرفة ما فئ دواخل أصحاب تلك الشخصيات: أسلوبهم في الحياة، تفكيرهم، علاقاتهم مع بعضهم ومع الأجانب وكأنما قد عاشرهم شخصيًا، وهنا يكمن سر عبقرية هذا المنجز. فعند تحليله للعلاقة بين أهل موران والأجانب يقول: “الطبع البدوي يتسم بالحذر، ويتحصن دائماً بالصمت أو التهذيب الزائد، وبعض الأحيان بإدعاء عدم المعرفة”.

يختتم عبد الرّحمن منيف هذا الجزء من الرواية في التركيز على الدور الذي يقوم به هاملتون في تهيئة المناخ للأمير فنر للقيام بأعباء الحكم من خلال تدريبه وتعليمه اللغة الإنجليزية وتقريب المفاهيم إليه من خلال كتاب الأمير “أما الذي أتيح له أن يطلع على تجارب الآخرين، وأن يستوعبها وأن يمنحها من روحه وروح المكان الذي يعيش فيه، فعندئذٍ لابد أن يحقق نتايج خارقة”.

 تطرق الكاتب أيضاً إلى العلاقة المتأرجحة بين السلطان وبريطانيا بين مدّ وجزر، “تعاوده فترة وأخرى، أي السلطان، التساؤلات المرّة: هذول الإنجليز ما يتأمنون، ويجوز مثل ماهم مادين معنا مادين مع ابن مباح”. وهكذا أرّخ عبدالرحمن مُنيف في هذا الجزء من ملحمته الخماسية تاريخ شبه الجزيرة العربية بأمانة وصدق ليقول: بأن من أكبر الأخطاء التي وقع فيها كثير من المؤرخين، أنهم جردوا التاريخ من روحه، من المكان الذي وقعت فيه أحداثه، ومن البشر الذين كانوا جزءاً من هذا التاريخ .