إلى علي الدميني في رحيله
سكبتَ روحكَ في أرواحِ من عبروا
على سمائك حتى مسَّهُمْ مطرُ
فأورقوا حدَّ أن الناظرين إلى
وجوههم لم يشكُّوا أنهم شجرُ
ولم تزل بضياءٍ منك تغمُرُهُمْ
حتى – وَضَوْئِكَ – ظنُّوا أنك القمرُ!
حتى الصحاري التي روّضتْ قسوتها
بما وهبتَ تنادتْ: ها هو النَهَرُ/
يجري ليخضلَّ عشبٌ.. تلك ضحكتُهُ
تندى، فيوشكُ منها الصخرُ ينفطرُ
وتلك أحرفُهُ في الأرضِ يبذُرُها
كي لا تموتَ، فطوبى للألى بذروا
هُمُ الذين وإن شطّ الغيابُ بهم
مَن في القلوبِ وفي الأرواح قد حضروا
باقون مثل بقاءِ الشعرِ يُكتبُ، لا
بالحبر، بل بمدادِ الروحِ يُعتصرُ
من كَرْمةٍ في أقاصي الغيبِ مَنْبِتُها
حبٌّ يحنُّ إذا ما مَسَّهُ حَجَرُ
باقون مثلَ بقاءِ الحبِّ ما خمدتْ
نجومُهُ مُذْ دعاها باسمهِ السَّحَرُ
باقون مثل بقاءِ الموتِ يحصدهم،
كي لا يموتَ، فلا يبقي ولا يَذَرُ
*******
يا من رحلتَ بلا كفٍّ تلوّحُ، عُدْ
من الغيابِ، وإن لم يُسْعِفِ البَصَرُ
لكي ترى الدمعَ في أجفان من كَبِروا
على يديك إلى أن أينعَ الثمرُ
وكي ترى الوجعَ الممتدَّ أسئلةً
حيرى على هذه الصحراءِ تنهمرُ
أنّى يغيبُ الذي ما زال مُرْتَسِمًا
له بكلِّ فؤادٍ خافقٍ أثرُ؟
وكيف تُطفأ شمسٌ لا يزالُ لها
دفءٌ، إذا ما غزانا البردُ ينتشرُ؟
وكيف يُخرسُ عودٌ لا يزالُ به
شوقٌ ليُعزفَ حتى ينتشي وَتَرُ؟
وكيف؟ كيف؟ سؤالٌ ما نزالُ به
نلوذُ مُذ جاءنا عن نعيكَ الخَبَرُ
******
رحلتَ – قيل – فقلتُ الواهبون بلا
مَنٍّ لنعبرَ ما ماتوا وما قُبِروا
فهم هنا معنا باقونَ، مَنْبعُهُم
صافٍ كما كان لا ينتابُهُ كدرُ
تحرروا من قيودِ الطينِ، فهو لهم
سجنٌ بعتمتِهِ في الأرضِ قد أُسِروا
وأصبحوا الآن أرواحًا محلّقةً
محررينَ، فكم أوذوا وكم صَبِروا
طوبى لأرواحهم فهي التي بَذلتْ
كي لا يُضامَ على أرضٍ لهم بشرُ
طوبى لأرواحهم فهي التي أنِفتْ
أن تُستباحَ، وأن ينتابها خَوَرُ
طوبى لأرواحهم فهي التي بقيتْ
وإن عَفَتْ منهمو الآثارُ والصورُ
أما الترابُ ففي حضنِ الترابِ غدًا
سيرتمي حينما يستلّه القدرُ
فقُلْ لموتكَ عُدْ يا موتُ خائبةً
كفّاكَ! فالموتُ حين الروحُ تنكسرُ
وما انكسرتَ! وما أسلمتَ رايتك
البيضاءَ يومًا وما داهنتَ من قدروا
وعشتَ حُرًّا فمتْ حرًّا يليق بِهِ
ألا يموتَ! ودُمْ جسرًا لمن عبروا
ابو زيد
*شاعر من السعودية