لا تأخذ الحياة بجدية كبيرة.. فلن تتمكن من الخروج منها حيّاً!

0
82

أثناء انتظار دخول العرض المسرحي “النجاة”، تدخل سيدة في مقتبل العمر لاهثة من الباب الرئيسي على الحديقة، وتطلب -بخوف- من الرجل صاحب المنزل أن يخبئها حيث لا يراها أحد، وتغلق الباب وراءها خشية أن يكتشف متتبعها المجهول مكانها. يتضح بعدها للجمهور “الواقف” في حديقة المنزل أن عرضه قد بدأ، وحان الوقت لتنفيذ تعليمات المخرج/ العرض المكتوبة: أولها خيار اختيار الممثل/ الممثلة الذي يحب أن يتابعه حتى يكون الاثنان تحت سيطرة الكاميرا: المتلقي والمتفرج معاً! والعرض أيضاً يحرِّض جمهوره على استكشاف المكان، الذي هو في الأساس منزل كبير يستخدم كمعرض للتحف واللوحات الفنية، وقد يكون السرير بالداخل هو القطعة الدخيلة الوحيدة، بالإضافة إلى بعض الاكسسوارات المطلوبة. ومن ضمن التعليمات أيضاً أن تتبع حدسك في متابعة الحدث، واللحاق بالممثلين، لا بالرفقة التي أتيت معها للعرض.. فلكل مشهد زاويته المختلفة.

لكن يبدو أن أحدهم لم يكن قد قرأها، فتعاطف مع الممثلة/ السيدة، وسألها فيما إن كان أحد ما قد ضايقها في الشارع! بل وطلب من الممثل/ الرجل صاحب المنزل أن يسرع بإحضار الماء لها لتخفيف روعها! وقد كان؛ وطريقة التعاطف الطبيعية التي أبداها الرجل، كانت نتيجة القرب الشديد من الممثلين. فقبل دخول السيدة اللاهثة، كانت الرجل في ملابس البيت الخفيفة ينادي قطته أن تأتي لموعد طعامها، وربما كانت تلك أهم إشارات اختيار المخرج لهذا النوع من المسرح المحدد التفاعلي، الذي يسمح بكامل “التلصص” على كل تفاصيل المنزل الكبير؛ هذه المسافة اللاغية بين مستقبِل ومرسل ليست عبثية. فالمسرح التقليدي يقتصر الأداء فيه على منطقة محددة، وما الجمهور إلا مراقب عن بعد. بينما، في المسرح التفاعلي، يسير الجمهور جنباً إلى جنب مع الحدث والممثلين. وما يحدث هنا هو إلغاء الحائط الرابع الوهمي، الفاصل بين الخشبة والجمهور الحاضر، والتي يجب أن يكون لها قصدية أيضاً.

و”النجاة”(1) واحد من العروض القليلة التي شاهدتها وهي تنصرف عن شكل العلبة الخشبية، ويكون تخلّياً في مكانه بالضبط. فحين تلغى المسافة بين الطرفين، بحيث ترى أدق التفاصيل: مقاس حذاء السيدة وهي تخلعه بعد طول الجري واللهاث، الفراغات في شعرها الخفيف القصير الذي ينكشف تحت الضوء، وكان بإمكانها ببساطة وتحت ذريعة الدور أن تضع باروكة، أو أن تثبت خصلات شعر تجعلها أجمل، ولكن أقل كفاءة في الأداء، وستكون حريصة بالفطرة على إبراز أنوثتها، وبالتالي سيكون أداؤها قلقاً وهي تتعرض للعنف والضرب من قبل زميلها الممثل، ومسامات جلدها التي تتفاعل مع برودة المكان، وانفعالاتها المتلاحقة، وهو قرب يورِّط المتفرج في اللعبة المسرحية، بحيث يبدي رأيه في ما يحصل، ويتصادف كثيراً أن يصطدم الممثل/ الممثلة بأحد أفراد الجمهور -غير المرئي بالنسبة له- أثناء أدائه، ولكنه يواصل كما يواصل المتلقي تلصصه على الحدث!

وهذا تلصص يسمح للمتفرج أن يلحق بالممثليْن اللذيْن تحول العنف بينهما إلى علاقة جسدية سريعة ولّدتها الظروف، يهيئ لها المخرج كل مرة مكاناً مختلفاً بعيداً عن الكشف الفاضح أمام الجمهور. وبينما كان هناك حاجز في العرضين السابقين –شقتان في مكانين مختلفين-، ينفذ هذه المرة في الحمام الذي تُسمع منه أصوات إيحائية، وعلى المتلقي أن يميزها عن بعضها حتى يتقين ما الذي يحصل بالضبط في الداخل! وحتى في هذه، ومع غلق الباب، لم ينجُ الممثلان من التلصص الذي دعا إحداهن -من الجمهور- إلى محاولة النظر من خرم الباب، أو تقريب أذنها على الباب لتوضيح الصورة!

هذا السماح بالقرب يذكر المطلع على تجربة فنانة الأداء الصربية مارينا إبراموفيتش، التي تدور أعمالها حول العلاقة بين الأداء والجمهور، حين عرضت نفسها لساعات بدون أي حركة، وأتاحت نفسها للجمهور لفعل أي شيء، مع إتاحة أدوات متنوعة: سكين، ومسدس، وماكينة الحلاقة، وأزهار، وشراب كحولي، وغيرها الكثير. ما حدث أنه بعد لمس شعرها ونكزها، والتأكد أنها لن تبدي ردة فعل، صار الهجوم عليها أعنف؛ من تحرش، وضرب، وتمزيق ملابس، ومحاولة استخدام المسدس، لولا تدخل أحدهم للحيلولة دون ذلك. ست ساعات ومارينا تقاوم هذا بصمت ودموع حارة، مسحتها لها سيدة رق قلبها على حالها. وما خرجت به إبراموفيتش بعد هذه التجربة المريرة أن كل البشر، مهما اختلفت قناعاتهم وأعراقهم وخلفياتهم الثقافية، قادرون على ابتكار مبرر للعدوانية من العدم، وهو أمر يدعو للأسى حقاً.

تجربة إبراموفيتش، برغم اختلافها، هدفها النجاة، لكن الطريقة واحدة: اكتشاف فضول الناس غير المتوقع. فالتلاحم الذي وجهه مخرج العرض لجمهوره المحدود بإرادته -الذي لا يتعدى خمسة وثلاثين فرداً- اختبار من نوع آخر لشكل المتلقي، اختبار لفضوله/ لمدى رغبته الحقيقية في الدخول إلى حياة الآخرين ومعرفة تفاصيلهم الدقيقة/ في شم زجاجات الكحول الموضوعة على الرف، أو مشاركة الممثلين بأكل صحن المكسرات الصغير، أو في الجلوس على طرف السرير مع الممثلة التي وصلت إلى مرحلة الثمالة والتجرد من الانضباط الذي لم يكن موجوداً أصلاً قبل أن تبدأ الشرب! أو في احتلال كراسي الجلوس ضمن أثاث البيت، وليس المخصص للجمهور، أو في الرؤوس الكثيرة المتحلقة حولها وهي تكتب رسالة قصيرة إلى أحدهم، وربما يكون حبيبها: “لم ولن أخون أبداً. سأظل مخلصة للقضية، صائنة للعهد حتى الممات، الذي بات أقرب مما كنا نتصور! أكملوا المسيرة من بعدي دون جسدي، ولكن احملوا روحي داخلكم إلى يوم الميعاد”.

وحسناً فعل المخرج في استبدال الصديق بالعشيقة في العرض، وهذا يلامس الذكاء، حيث علاقة المرأتين ببعضهما مختلفة بشكلها وثقلها عن مجرد صديق للبطل، لأن الصديق سيكون مراقباً خارجياً للأحداث وحسب، كما هو في النص وفي عرض سابق (2) قبل سنوات لهذه المسرحية، بينما العلاقة الأخرى تكشف عن خط آخر معقد أيضاً. فالعشيقة هي أنثى مؤقتة في حياة الرجل، مهما طال وقتها معه، خاصة إذا كان بإدراك الطرفين، لكن لها حقوقاً شفهية، والمرأة اللاهثة التي حطت فجأة، صارت لها حقوق بشكل ما، بحيث يمكنها -بعد العلاقة الحميمية السريعة والمفاجئة- أن تستفسر عن غريمتها، ولو بشكل يدّعي عدم المبالاة! وفي ذات الوقت تكتب الرسالة وتهاتف حبيبها من منزل الشخص الذي مارست معه علاقة طارئة قبل قليل، تؤكد على حبها وإخلاصها له ولما ينتميان إليه، تأكيداً على ما جاء في الرسالة المكتوبة، نبرة صادقة وحماسية ومحفزة! من يصدق الجمهور؟ وكيف؟ هل من العادي أن تكون امرأة محبة وفية لشخص، أو لمجتمع، أو جهة، وتصرفاتها مثل فتاة الليل غير العابئة بعلاقات جسدية عابرة، تمارس عهراً سياسياً عبر سلوك غير سوي؟ هل من الطبيعي أن تتناقض التصرفات بين الأخلاق وانعدامها في نفس الوقت؟ هل تغليب هذا الفعل كأنه معتاد ويحصل يومياً، رسالة أن الغرائز تعلو المبادئ؟

وهذا النص الذي كتبه نجيب محفوظ بعد نكسة 1967، ضمن نصوص مسرحية أخرى ذات فصل واحد، ونشرت ضمن مجموعته القصصية “تحت المظلة” في العام 1969، كانت ذات نمط مختلف عما اعتاد عليه القارئ، ومحفوظ نفسه لم يعتبر نفسه كاتباً مسرحياً؛ ولهذا أكثر من إشارة ذكرها باحثون عدة في دراسات منفصلة، لكنه -ككاتب- اهتم بالكتابة الواقعية ذات التفاصيل والشخصيات الخارج أغلبها من الحارة المصرية الأصيلة بكل نماذجها، ولذلك فإن منجزه الحقيقي في الرواية التي برع في شكل متفرد فيها لا ينازعه أحد من معاصريه. لكنه في “النجاة”، ونصوصه المسرحية الأخرى، كتبها بالشكل العبثي الذي يتناول القلق من المجهول، والعزلة، والخوف، واليأس، وغيرها من المعاني المطلقة، والتي تسمح لأي مخرج بأن يضع رؤيته كيفما يفهم النص وطبيعته.

وبينما يهيم الجمهور في اللحاق بشخصيتي العرض الرئيستين، وفي الحوار الذي توغل منذ اقتحمت عليه المنزل طالبةً أن تختبأ لبعض الوقت دون توضيح الأسباب، برغم إلحاح الطرف الآخر في المعرفة حتى لا يبدو شريكاً في جريمة لا يعرفها، ثم قطع هذا الحوار دخول العشيقة، ودخول مسؤول الأمن للمكان للبحث عن السيدة اللاهثة! والتعاطف الذي حصل بعدما تمددت على السرير وأنهت حياتها في هدوء لا يتناسب مع الربكة التي أحدثها وجودها برفقة صاحب المنزل، العازب ذي العشيقة الشكاكة، كلها أمور غير عادية، حتى عندما حملها الرجل راكضاً بها خارج المنزل وأحد الحاضرين المتتبعين يصرخ بصدق: “خذ شنطتها”، كأنما أصبح فعلاً جزءاً من العرض! حبس الجمهور القسري، ثم الافراج عنه، ليتضح أن كل هذا مزحة وعبث كبيرين، وسؤال عريض مضمر في العرض:

من يلعب بمن في عبثية هذه الحياة؟

هوامش

(1) النجاة، تأليف نجيب محفوظ، وإخراج وسينوغرافيا محمود سيد، ومن تمثيل: عمر جمال، وسارة خليل، ومنى سليمان، وأحمد السيسي.

(2) https://www.youtube.com/watch?v=WqcGHGDTGiw