في صلب كل معركة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية ثمة أيديولوجيا، واضحة أو كامنة. ومهما بدا أن العالم يقترب من نهاية الأيديولوجيا، إلا أن هذه المقولة هي أيضاً مقولة أيديولوجية بامتياز، فالتاريخ بشكل ما، هو تاريخ الأيديولوجيا، خصوصاً التاريخ الحديث؛ أي منذ عصور التنوير الأوروبية وما بعدها، وسيبقى على الدوام من يحملون راية، أية راية، مهما بدت ظاهرياً أنها لا تقرب عالم السياسة والأفكار، إلا أنها ولكونها راية عَلماً، نداء إلى قضية ما تخصّ البشر، فهي أيديولوجيا.
مع بدايات عصر العولمة الراهن، وصعود منتجات التقانة والاتصالات، وانفتاح العالم على بعضه البعض (بحسب مروجي فكرة القرية الكونية)، سادت موجة معادية للأيديولوجيا، ومنبع هذه الموجة هو الغرب الليبرالي مدفوعاً بنشوة سقوط الاتحاد السوفييتي، وسقوط جدار برلين، وتداعي الكتلة الاشتراكية، وتراجع الشيوعية، وانتشار التجارة الإلكترونية، وصعود الإعلام الرقمي على حساب الأشكال التقليدية للإعلام، وقد حاولت هذه الموجة المعادية للأيديولوجيا ترسيخ فكرة مفادها أن الدولة الليبرالية هي نهاية التاريخ.
القول إن الدولة الليبرالية هي نهاية التاريخ، وإن صيرورة التاريخ ستمضي نحو شكل واحد، هو الشكل الذي اتخذته الدول الغربية، هو قول أيديولوجي، من دون أن ينتقص هذا التوصيف من قوّة الحجج التي تدافع عنه، لكن أيضاً من دون اعتباره علماً يستند إلى قانون مثبت، فالتاريخ أعقد من أن يضبط بقانون محدّد، حتى لو كان التاريخ يمضي وفق قوانينه الخاصة؛ بل لهذا السبب لا يمكن الجزم بالشكل، أو الأشكال التي سيتخذها في المستقبل.
بالنسبة للغرب، فإن العالم خارجه، بدوله وحكوماته وشعوبه، هو العالم غير الغربي، وهذا التعريف يحمل في طياته إحساساً بالتفوّق على الآخر المختلف، ليس فقط سياسياً واقتصادياً؛ بل ثقافياً. فالمعيار في هذه النظرة هو القيم الليبرالية، ولا يكفي أن نقول إن هذه النظرة موجّهة فقط نحو الشرق، كما فعل المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، في كتابه «الاستشراق»؛ بل أصبحت إلى حدّ كبير نظرة معمّمة، تطال كل مجال إنساني يقع خارج دائرة الغرب الأمريكي والأوروبي.
لقد أعطت الليبرالية، في سياق تطوّرها التنويري والعقلاني؛ بل لكونها ثمرة التنوير والعقلانية معاً، الفكر الإنساني في مختلف المجالات أفقاً جديداً، لا يمكن التنكّر لمنجزاته، لكن الليبرالية نفسها ليست منظومة متجانسة، خصوصاً في المجال السياسي الخارجي والعلاقات الدولية، كما أنها ليست محصّنة في مجال الممارسة السياسية داخل الدولة نفسها من إعادة بناء حكم الأوليغارشية (الأقلية)، من خلال النظام الانتخابي الديمقراطي نفسه، ما يفقد الكثير من العناوين الليبرالية مضامينها الحقيقية.
في الصراع الشرس الذي تقوده الولايات المتحدة مع الصين، من أجل ضبط صعود بكين في سوق العمل الدولي، تستخدم واشنطن ترسانة من الأسلحة، من بينها سلاح الأيديولوجيا، انطلاقاً من اعتبار المنظومة الليبرالية هي المسطرة التي يجب على بكين اتباع معاييرها. فالصين بوصفها جزءاً من العالم غير الغربي هي بالضرورة، وتلقائياً، تصبح ذات منظومة قيمية متأخرة، وهذه النتيجة يتم تعميمها في الإعلام العالمي الذي يدور في الفلك الغربي، مع إغفال بالطبع أن هذه النظرة الأيديولوجية هدفها شيطنة العدو، والتقليل من قيمة منجزاته.
ثمة تناقض جوهري في النظرة الغربية/ الليبرالية السياسية إلى العالم غير الغربي، وهذا التناقض هو تناقض معرفي، فالليبرالية مؤسسة على احترام الاختلاف وتقبّله، واعتباره جزءاً لا يتجزأ من الغنى الحضاري والإنساني. وبالتالي، فإن أي مطالبة للآخر بأن يكون نسخة طبق الأصل من الليبرالية الغربية هي مطالبة تتنافى مع قيم الفكر الليبرالية، وتصبح نقيضاً لليبرالية نفسها، وشكلاً من أشكال الديكتاتورية المقنّعة.
إذا كان التطوّر الرأسمالي أفضى إلى الغرب الذي نعرفه اليوم، فهذا التطور في جانب كبير منه هو تطوّر خاص، ولا يعني هذا عدم أهمية تعميم الكثير من قيمه ومنتجاته؛ بل يعني فهم منطق صيرورة التاريخ، ومنطق اختلاف الحاجات لدى الآخر، انطلاقاً من كونه مختلفاً، وليس بالضرورة متخلّفاً، كما أن قسر الواقع نحو صيرورات لا تتطابق مع معطياته قد يُفضي إلى نتائج معاكسة، وأحياناً كارثية.
تقسيم العالم وفق ثنائية غرب/لا غرب، لا يؤثر فقط في مصداقية المنجز الليبرالي، ويعيق تطوّره عبر الفكر النقدي؛ بل يسهم في تقسيم العالم سياسياً، وربما يدفع نحو إعادة اصطفاف جديدة على مستوى العلاقات الدولية، لمواجهة المصالح الغربية التي تتخلّى يوماً بعد يوم، وتبتعد عن جذر الليبرالية في تأسيسها للحقوق، وفي مقدمتها حق الاختلاف.