مُدُن المِلح (4)

0
90

 بادية الظلمات

يأخذنا عبدالرحمن منيف في الجزء الرابع من سفره (مدن الملح) إلى ما سماه ذاكرة الأمس البعيد، يبدأها بالأمير فنر وذكريات طفولته في عين فضة وموران حتى أصبح نائباً لأبيه في العوالي. “يتذكرها بوضوح، يستعيدها بلذة، وتتألق في لياليه، أكثر من القصص التي تتردد في بيت أبيه”، وهُنا يركز أيضاً على دور هاملتون بايعاز من السلطان خريبط في تأهيل إبنه فنر لأن يأخذ دوره في حياة السلطنة ويخرجه من العزلة التي لازمته بعد وفاة والدته وبقائه مع أخته موضي في عين فضه مع جده وجدته لأمه.

ونتيجة لذلك وبفعل تلك الوصايا التي حصل عليها من هاملتون أصبح شخصًا آخر “فإن شيياً، أشبه بالزلزال، وأشبه إلى الكشف غيّر حياته كلها وسيطر عليه تماماً”، فكانت وصايا كتاب الأمير بمثابة خارطة طريق “ليست لليوم والغد، إنها للحياة كلها”. الأمير فنر الذي عرف الحياة وخبرها بفضل هاملتون أخذ يُطبق الوصايا من كتاب الأمير بإخلاص ودقة،  تمعن جيداً في مقولة هاملتون له: إنه إذا أمكن دمج الصحراء والبحر والدين في معادلة، فعندئذ ٍيمكن الحديث أن دولة جديدة ولدت في هذا الشرق ويمكن أن يكون لها مستقبل هام، وبفعل تلك العلاقة الوطيدة التي نسجها هاملتون مع السلطان والأمير فنر استطاع ان يتوصل إلى توقيع اتفاق النفط أولاً، ثم أشار على السلطان أن ينفتح على العالم وأن يقيم علاقات مع الكثيرين. وبفضل نصائح هاملتون سافر فنر فئ جولة جديدة حاملاً رسائل من أبيه للحصول على أعتراف الدول الأخرى.

يتصدر هذا الجزء من رواية مُنيف زواج الأمير فنر من امرأة تركية (ثروت) بعد أن توفت زوجته الأولى وحزنه الشديد عليها لتأتي هذه الزيجة لتنتشله من تلك الحالة وتدفع به إلى واجهة الأحداث بعد أن تخلصت هي أيضاً من وحدتها على الرغم من وجود والدتها معها، “فإنها بمرور الوقت تعلمت أشياء كثيرة، وأصبحت امرأة مختلفة، وساعدت أيضاً في أن يكون فنر إنساناً آخر”.

يعود الكاتب من جديد إلى قصر الروض والأشياء التي تحدث أثناء غياب السلطان والمشاكل التي لا تتوقف ولا تنتهي وبالخصوص إذا ما طالت الغيبة ليتحول القصر إلى “خلية من الفوضى والأضطراب لم يعرف لها مثيلاً في أي وقت سابق”، فخصومات النساء لا تقل عن خصومات الرجال، تأتي على شكل إشاعات أو مؤآمرات من هُنا وهناك، وبالخصوص عندما أُشيع عن محاولة اغتيال فاشلة للسلطان، حيث انشغل القصر والناس بهذا الخبر وأصبح حديث العامة في الأسواق والمضافات، تلك المحاولة التي شغلت الكثيرين، فحين يُسأل عن السلطان تردهم الإجابة المكرورة “لا حي فيرجى ولا ميت فينسى”، حيث أعتزل السلطان الناس، كان ضعيفاً شاحباً، مما اضطر هاملتون في زيارته الأخيرة له لجلب كرسي متحرك ،في هذه الأثناء سُمي الأمير خزعل ولياً للعهد.

كتب هاملتون في مذكراته، كما يقول مُنيف:  ً”تسمية الأمير خزعل وليًا للعهد تعني مرحلة جديدة وشاقة، ويجب  أن  يعيد  الإنسان     حساباته، وأن يتوقع الكثير”. هاملتون أعتبر تسمية خزعل ولياً للعهد ضربة قاسية، بدأ يخطط لما بعدها فقال لفنر: “الضربة التي لا تقتلني تقويني وتفيدني”، وبذلك الكلام وبتلك الوصايا حفظ الأمير فنر الدرس جيداً وزاد على ذلك ما فهمه من وصايا المقربين له. “عادِ كل الناس وصادق الانجليز، وأنت الرابح”، لكنه عرف لاحقاً بأن العالم تحكمه قوتان صاعدتان هما أمريكا وروسيا، وعندما حدّث أباه بقوله: “كان الانجليز اسوداً، لكنهم الآن بلا أنياب، ردّ عليه والده: وحنا، وبتوفيق من الله، نصلي ورا علي وناكل مع معاوية، بالسياسة مه الانكريز وبالمصلحة مع الأمريكان”. وبذلك الفهم واتساع المعارف والسفر الدائم في أرجاء العالم استطاع فنر أن يكوّن له علاقات واسعة، ومن خلال المهمات التي كُلف بها أحسّ بأنه قاب قوسين أو أدنى من الحكم، خاصة وأن موقف السلطان من خزعل ولي العهد المعين “شديد التقلب والخطورة، فما يكاد يرضى عنه يوماً حتى يغضب في اليوم التالي”.

 إلا أن الأيام مرّت ومات السلطان خريبط وانتهت وانطوت صفحة كاملة في تاريخ الصحراء كما يقول عبدالرحمن مُنيف، “وطُرد هاملتون على يد السلطان الجديد خزعل وغادر إلى بيروت فانصرف إلى الدراسة والكتابة”، وكان لديه الكثير ليقوله”، ومع ذلك لم يترك الأمور تمرّ بسهولة، وإنه ليس مجرد متفرج عادي.

يُعرّج عبد الرّحمن منيف في هذا الجزء من خماسيته على الأسابيع الأخيرة التي سبقت استيلاء الأمير فنر على السلطة، ويُذّكر بأنها كانت أيام عصيبة، وهنا يصوّر الحالة النفسية للسلطان الجديد وانعكاس ذلك على عائلته: “الحيرة لا تزال تأكله، والخوف يجعل تفكيره مضطربًا أقرب إلى الشلل”، أما وقد خلا الجو لفنر بعد سفر خزعل لمدينة بادن بألمانيا،  فقد قام بتنحية أخيه عن الحكم وما تلى ذلك من أحداث فرح داخل قصور العائلة ومن مداهمة قصر المحملجي، والإجراءات التي تمّ اتخاذها بعد ذلك لتثبيت أركان الحكم الجديد.

وكما في أي نظام جديد، الأشخاص يتبدلون، والحاجات تتغير والأساليب في التعامل تختلف، وهكذا أصبحت الحاجة إلى الشركات الامريكية ضرورة لتوريد السلاح، فقد بدأت الشركة العالمية بتقديم عروض وخدمات للسلطنة، وكان غزوان إبن المحملجي أحد المتصدرين لهذه المهام بحكم وجوده     في  أمريكا، فأبرمت الصفقات ووزعت المسؤوليات. ومع كل تلك التغييرات التي حصلت ظلّ السلطان فنر يتذكر كلام هاملتون له قبل وفاته: “إن أرادت موران أن تكون شيئاً في عالم اليوم، فما عليها إلا أن تغادر بداوتها، أن تخلفها وراء ظهرها، وبسرعة من أجل أن تلحق بركب العصر، فترك لأعوانه صياغة مفاهيم وأفكار عجزوا عن تحقيق أي منها بسبب تململ الناس مما تسرب عن تحركات في الجيش أدت الى عمليات اعتقال واسعة، وتطلّب إعادة تنظيمه.

كل ذلك يحدث رغم حمّى التغييرات التي اجتاحت موران،”مع تزايد  الأموال، والتنافس بين الأمراء في بناء القصور بشكل خاص”، فالحياة في موران بعد تلك التطورات وبعد أن استتب الحكم تمّ التعاقد مع الشركات لبناء مدينة جديدة سُميت باسم السلطان الجديد مدينة فن، إلا أن الأمور ما أن تستقر حتى تسوء الأحوال من جديد، فها هي ثورة الدواحس  تطلّ برأسها وتشكل تحدّياً جدياً للسلطة الجديدة، وبعد ان طالت الحرب وقد دخلت في نفق مُظلم، فلا يعرف متى تنتهي أو إلى مذا ما ستؤول، “لم تبق بلدة في السلطنة كلها، كما يقول الكاتب، إلا وشهدت، بعد صلاة الظهر، رؤوساً تتطاير. كان عدد الرؤوس يتناسب مع أهمية البلدة، ومدى ولائها، والرسالة المطلوب أن تصلها”.

وعلى إثر ذلك حدثت تبدّلات في أجهزة الدولة لمواكبة تلك الأحداث، وتمّ التوقيع على عقود جديدة بطلب السلاح بعد أن اندلعت الحرب، وأصبحت متطلباتها كثيرة ومتنوعة وعاجلة. ونتيجة لتلك الطلبيات الضخمة من الأسلحة أحدث ذلك نزاعاً بين الشركات الامريكية الموردة، إضافة إلى التعاقد مع الطيارين والفنيين ومتطلبات معيشتهم والمبالغ الطائلة لوجودهم والترفيه عنهم، ومع ذلك فإن الحرب تراوح مكانها، بل طالت وتشعبت وتحولت إلى “نزيف وعلة، لا تشتد فتحسم،ولا تنتهي فتدفن”.

قال السلطان: “الغريب أن الامريكان كل يوم برأي. قالوا لنا ابلشوا وحنا معاكم، ولما وقعت الحرب كانوا معنا، والشهادة لله. لكن ما مر كم شهر إلا وبدأ يعنفصون: طولوا بالكم. خففوا هجومكم. يصير وما يصير. والسلاح” ويخلص الكاتب في هذا الجزء الطويل من “مدن الملح” إلى أنه مثلما بدأت الحرب مفاجئة انتهت. ربما جاء من قال للطرفين: انهوا الحرب أيها المجانين”. .