هل نحن بحاجة إلى نظرية نقدية عربية؟

0
42

كل مرحلة تاريخية في المجتمع تفرز مجموعة من الكتاب والمبدعين، وشرائح من المثقفين المهتمين بالثقافة العامة، أو المعنيين بالثقافة الخاصة أو التخصصية، ومتى ما استطاعت هذه المجموعات تكريس دورها وجهدها الإبداعي أو النقدي أو الفني، أو السيسيولوجي أو التاريخي أو الأنثروبولوجي بقي هذا النتاج واقعًا ملموسًا أفقيًا في طريقيه التاريخي والجغرافي.

….

جاءنا طوفان الكتابة من كل الجهات الأصلية والفرعية، وهؤلاء الذين دخلوا في شرنقة الكتابة يعتقدون أنها الأجمل والأنقى وصاحبة القدرة على التميز، في وقت أن الكتابة لا تتحول إلى عادة واستمرار إلا بالتجربة القاسية والفكر الواعي والقراءة المتواصلة والبحث الدائم في كيفية الحصول على المعرفة والتمسك بها، لا أن تكون الكتابة مجرد صف كلمات لتبني جسرًا مهلهلاً بكلمات سطحية خالية من السؤال والتحفيز على التفكير.

….

هناك من فريق من الكتاب والمبدعين العرب ينادون بوجود نظرية نقدية منطلقة من فضاء العالم العربي، وهناك آخر يرفض هذا التوجه جملة وتفضيلاً، وفريق ثالث بين هذا وذاك لأنه لم يحسم أمره. ومن هذا المنطلق ألا ينبغي علينا نحن المنتمين إلى عالم الكتابة والإبداع أن نقف وقفة صريحة نقدية لما هو موجود من تراكم نصوصي في مجال الأدب والفن؟

إن الدعوات التي تطلق بين الحين الآخر في مشهدنا الثقافي والنقدي، هي: حاجتنا لنظرية نقدية عربية، هذه الدعوة تجعلنا نقف مليًا عند مجموعة من المعطيات ذات العلاقة بالثقافة والتراث، وبالأدب، وبالعلوم الإنسانية والاجتماعية. وهنا نؤكد أنه لا تخلو قومية أو إقليم أو دولة من منجز ثقافي وأدبي، بعيدًا عن جودة هذا المنجز، وعمق ما يطرح ويناقش ويسأل. وبالعودة إلى السطوة الاستعمارية آنذاك، نجد أنها سعت بكل ما تملك من أساليب وخطط لحجب هذا المنجز أو لتقويضه، وهي: فرض اللغة والثقافة، وما قامت به هذه الدول الاستعمارية على أرض الدول المستمَرة لوجدنا حقيقة ما نقول، حيث أصرت إسبانيا آنذاك حين سيطرت على العديد من دول أمريكا الجنوبية (اللاتينية) أن تكون اللغة الإسبانية هي اللغة الرسمية، وتدريجيًا، ومع الوقت والفرض، باتت هذه اللغة وكأنها اللغة الأم، ولتكون لغة التفكير والكتابة والحياة اليومية، أما لغات هذه الدول والمناطق فقد دفنت بين أروقة الحديث الخاص، أو بين بطون الكتب القديمة، أو بين قبور الأجداد، لتكون ضمن حضارة وثقافة وتاريخ شبه منسية، وكذلك فعلت فرنسا حين استعمرت العديد من الدول العربية وغير العربية، وإن كان الهدف ليس اللغة في حد ذاتها، بل في الثقافة، وفي أنظمة التعليم، وطرائق التفكير اليومي لدى عامة الشعوب، وفئة التكنوقراط، ووظفت اللغة لخدمة مل هذا، وهو ما توجب على الدول المستمَرة الاهتمام باللغة الفرنسية أيما اهتمام، وفعلت بريطانيا الشيء نفسه، ولكن بدرجات متباينة ومختلفة، إذ جاء اهتمامها بتكريس لغتها، ولكنه من خلال ما نسميه باللغة الوظيفية والتعليمية، فضلاً عن الادب والثقافة المجتمعية.

في دولنا العربية مثلاً، وبحكم التطوّر الذي حصل لدول قبل أخرى، كانت ثقافة مراكز الاشعاع الثقافي لهذه الدول مركزًا مهمًا آنذاك، وربما حتى اليوم، مثل: القاهرة – بيروت – دمشق – بغداد مع ظهور عدد من العواصم والمدن من دول الأطراف تنافس دور مدن المركز، وهي: الرباط والدار البيضاء، تونس، الجزائر، الكويت، دبي والشارقة وأبو ظبي، المنامة، مسقط،  الدوحة، الرياض وجدة والمنطقة الشرفية بالمملكة العربية السعودية، وقد تمظهر في البنى التحتية، وبخاصة في منطقة الخليج، وتحديدًا في التعليم تدريسًا ومنهاجًا، وطريق تفكير، وقد أسهم في ذلك تلك التحولات الاقتصادية وطبيعة التفكير والثورة المعلوماتية التي لا تقف عند بقعة مكانية أو جغرافية دون أخرى. 

ليس سهلا أن نطلب من المرء التخلي عن شخصيته أو عن قوميته أو عن موروثه الثقافي في خضم رغبة التحول إلى العالمية كما حدث إلى محاولات العولمة التي تفضي إلى محو أو اضمحلال القوميات الصغيرة، وثقافاتها، لتنخرط في الثقافات الأخرى، وهو ما لم تنجح فيه، بل بدأت هذه القوميات المتناثرة على سطح الكرة الأرضية في البروز والظهور كلما اجتاحت مناطقها الدمار والحراب، أو محاولة طمس هذه الأقلية، أو ذاك الدين، أو هذه الثقافة، لذلك لابد من جعل هذه الأقليات والقوميات الصغيرة ذات مكانة مثل ما للقوميات والثقافات واللغات ذات الانتشار والسطوة في العالم، أي أن تكون حاضرة، وهذا ما يدعو إلى الاهتمام بمنجزاتها الثقافية والحضارية، ونقلها للعالم لتكون عالمية الانتشار، وتأخذ الدور العالمي من دون فقدان هويتها الأصلية، أي أن تطرح هذه القوميات على نفسها سؤالاً بكيف تتمكن من حضورها عالميًا، وما المحكات التي ستخوضها في هذا المضمار. 

والأمر الذي لا نختلف فيه، هو أن كل مرحلة تاريخية في المجتمع تفرز لنا مجموعة من الكتاب والمبدعين، وشرائح من المثقفين المهتمين بالثقافة العامة، أو المعنيين بالثقافة الخاصة أو التخصصية، ومتى ما استطاعت هذه المجموعات تكريس دورها وجهدها الإبداعي أو النقدي أو الفني، أو السيسيولوجي أو التاريخي أو الأنثروبولوجي بقي هذا النتاج واقعًا ملموسًا أفقيًا في طريقيه التاريخي والجغرافي، ولكن حينما تكرّس كتاب هذه المرحلة أو تلك في تفكيك الحراك الثقافي والأدبي والفني، أي أنواع التعبير المختلفة، والأشكال المتعددة، والقوالب التي تملأ فيها هذا النتاج وذاك، لا شك سيكون واقعًا مختلفًا لدوره ومكانته في المجتمع المحلي والخارجي، وهو الحلم الذي طالما كنا ولانزال نحلم به، أي أن تفتح النصوص والثقافات أفاقًا على الآخر، وهو ما يفرض علينا أن نكون في ديناميكية الطرح والسؤال والسجال والتقييم، والبقاء الدائم في ديمومة الحوار؛ لأن مراجعتنا النقدية تسهم في بلورة الأفكار وصياغتها، والمساهمة في بناء ما هو في المستقبل، بل من الأجدى أن تقوم كل مرحلة بتقييم ما سبقها والخروج من محيط انغلاقها الراسخ على ذاتها.

وحتى نكون فاعلين في الحراك الثقافي العالمي، علينا أن نطرح سؤالاً، هل فكر أحد منا كيف تكونت ثقافتنا الإنسانية؟ كيف بنى أجدادنا حضارتنا؟ كيف أصبحنا ضمن هويات متعددة؟ هل هناك قاسم مشترك بين الحضارات؟ بين الثقافات؟ بين الهويات؟ بين أحلام البشر وتطلعاتها؟ هل نحن الشعوب المتعددة بلغاتها وألوانها وأعراقها ودياناتها ….. والخ لدينا قواسم مشتركة كما لدينا تباينات في التفكير والرؤية والأهداف والتطلعات؟ هل نؤمن بحقيقة أننا على كوكب الأرض شعب واحد في الإنسانية، وإن تعدد كل ما سبق؟ أقول نعم هناك مشتركات بين البشر، وقد أكدت عليها الديانات السماوية والوضعية، المبادئ والقيم التي نادى بها العديد من المفكرين والفلاسفة، ومن هذه المشتركات: الحرية المسئولة، مبدأ التسامح والتعايش، مبدأ التنوع والتباين في الحياة، الدين، الطائفة، المذهب، التخصص، مبادئ الحقوق والواجبات مع مراعاة ظروف الدول والمجتمعات، وحركة التاريخ والنمو الاقتصادي والنمط الاجتماعي. كذلك كل شعوب العالم لها حضارة وتاريخ وثقافة مع الإيمان بالتباين بين كل هذا، حيث قناعتنا تشير إلى أن هذه المشتركات والتباينات بين شعوب العالم هي خصلة أو خصيصة مهمة في البناء العام والخاص.

إننا أخذنا من الغرب بلا شك الكثير من المعارف والعلوم والتشريعات والقوانين التي تنظم المجتمع، وتسهم في رقي الإنسان، وقد برز ذلك من خلال التعليم والتكنولوجيا والعلاقات الإنسانية والتنظيمية والحقوقية وغيرها، ولكن في الوقت ذاته لم نقف وقفة صريحة مع أنفسنا، ودراسة ما أخذنا ووصلنا إليه مقارنة بما أخذت الحداثة الأوروبية من العرب أنفسهم، بمعنى أن أوروبا حين جاءت إلى الأرض العربية جاءت بحداثتها التي وصلت إليها عبر عدة قرون، من النهضة الأولى حتى الحداثة، وما بعد الحداثة، مرورًا بعصر الأنوار، وتلك الأدوار التي قام بها علماء وفلاسفة ومفكرون وكتاب غربيون منذ الفلاسفة اليونان والإغريق، وبعيدًا عن رسم الرؤى والتوجهات والأهداف التي ربما يراها البعض أنها ذات مسحة استعمارية، أو رغبة في نشر المفاهيم والمبادئ الغربية، فإن ما جاء عن طريق هؤلاء يطرح على الإنسان أيًا كان مكانه أو فكره أو دينه أو هويته، كيف يفكر، وكيف ينطلق نحو التقدم العلمي والمعرفي، وكيف ينمي وعيه الاجتماعي والحقوق، وكيف يقرأ الواقع المعيش بما جاءوا به هؤلاء وغيرهم من نظريات تسهم في تنمية الثقافة والمعرفة. 

وكثيرًا ما نطرح نحن العرب أسئلتنا حول النتاج الأدبي والثقافي، ومدى إمكانية هذه النصوص المختلفة إن كانت تلبي طموحاتنا، أم لا يزال الوقت باكرًا على تحقيق هذه الطموحات، وبقينا في دوامة الطموح، وعجلة النتاج، وميزان التقييم، منذ أن نصب زهير بن أبي سلمى خيمته في سوق عكاظ، وحتي يومنا هذا، حيث تتمظهر لنا التساؤلات وتتبعها التعليقات فيما يخص آليات تقييم عملنا ومنجزنا الثقافي والأدبي. من هنا بدأت تظهر بعض النظريات والمناهج التي تربينا عليها منذ الأزمنة الماضية، فقد كان العروض والبحور الخليلية منهجًا أتبع بعد أن وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي للشعراء الذين جاءوا بعد هذه المنهج القديم الجديد، واستمراره حتى هذه اللحظة، مع الحضور الطاغي لقصيدة التفعيلة والنص النثري. 

جاءت لنا نظريات ومناهج نظّر لها منظرون مسلمون، حيث لم تكن العربية في المحك لمعرفة الشخصية آنذاك، بقدر ما ينظر إليها بوصفها شخصيات إسلامية، إذ برز العربي وغير العربي في شتى العلوم والمعارف، مثل: الخوارزمي وابن خلدون والفارابي والغزالي والطوسي وابن سينا والكندي وابن سلام الجمحي، وقدامة بن جعفر والجرجاني والجاحظ وغيرهم الكثير الكثير، من هنا ظهرت لنا علامات النقد الأدبي والبلاغي، وتصنيف الشعراء، وعلم المعاني، وعلم البيان وعلم البديع، وكذلك نظرية اللفظ والمعني، والسجال حولهما، وحينما أخذها الغرب لم يقف عن منبعها ومنبتها، بل واصل العمل بها وتطوير أساليبها وطرائقها.

إن الثقافة أو الأدب لم تكونا في يوم من الأيام حاجزًا بين الإنسان والآخر، بل يسعيان باستمرار لبناء جسور متينة بين البشر، ولكن للأسف البشر أنفسهم لا يرغبون في هذا التواصل والتلاقي، ويرغبون في أحاديتهم وانزوائهم وتطلعاتهم الفردية القادرة حينًا والعاجزة أحايين في تحقيق طموحات المجتمع والوطن قبل طموحاتهم الفردية، لكن للأسف بعد الألفية الثالثة جاءنا طوفان الكتابة من كل الجهات الأصلية والفرعية، وهؤلاء الذين دخلوا في شرنقة الكتابة يعتقدون أنها الأجمل والأنقى وصاحبة القدرة على التميز، في وقت أن الكتابة لا تتحول إلى عادة واستمرار إلا بالتجربة القاسية والفكر الواعي والقراءة المتواصلة والبحث الدائم في كيفية الحصول على المعرفة والتمسك بها، لا أن تكون الكتابة مجرد صف كلمات لتبني جسرًا مهلهلاً بكلمات سطحية خالية من السؤال والتحفيز على التفكير.

لا تنشئ أية نظرية أو يبرز أي منهج في علم من العلوم، أو في حقل من الحقول المعرفية إلا بعد دراسات وافية ومتعددة عبر الزمن، وتحديدًا في قراءة الواقع المعيش، ومدى استعداده لقبول هذا ورفض ذاك، حتى في الأمور الحياتية البسيطة، وكلنا يعلم تلك المواجهات التي حدثت بين دعاة الحداثة والتقليديين، أو دعاة النهضة العربية ومعارضيها الذين كانوا يعتبرون النهضة تستقي شعاراتها وتطلعاتها من الغرب، وكذلك حين كتابة قصيدة التفعيلة وما دار حولها من هجوم الذي تكرر بعد انتقال عدد من الشعراء الذين آمنوا بقصيدة النثر، إذ لا يزال التباين قائمًا في عالمنا العربي حتى اليوم، فأية نظرية تضع في تكوينها مناقشة البعد الفلسفي لتكوينها، والمتعلقة بالأفكار والمفردات (اللغة)، والتصورات (البناء والتكوين الجسدي للنظرية)، والأشياء (المعطيات الموضوعية والمادية التي تسهم في ظهور هذه النظرية أو تلك. فضلاً عن علاقة النظرية بالأفكار المؤدلجة  التي قد تعرقل مسيرة تقدم هذه النظرية أو عبور هذا المنهج. وبخاصة إذا بدأت تلك المفاهيم والقيم النقدية تخوض في نصوص مقدسة.

نحن حينما ننادي بنظرية عربية في النقد، فنتساءل أي نقد نعني، هل للنص الأدبي، أم النص اللغوي، أم النص التراثي التاريخي، أم النص الديني، أم النص الاجتماعي؟ أم هي نظرية عامة يمكن توظيفها في شتى المجالات والمعارف والحقول والأجناس، ولكن هل قرأنا واقعنا العربي، ومدى استعداده لقبول مثل تلك النظريات التي ظهرت في أوروبا، هذا الظهور المسبوق بدراسة واقع اجتماعي وثقافي وطبيعة قبول نقد المقدس بحيث لا يوجد نص هناك مقدس، أما نحن فجل حياتنا تقاس من خلال المقدس، فكيف إذن نبحث عن نظرية يقف المقدس الاجتماعي أو الديني حائلاً؟! أي النظرية التي نطمح لها لابد أن تعنى بالنص في سياقاته المختلفة الاجتماعية والثقافية والدينية والآيديولوجية المختلفة، وواقع الإنسان والعيش، الأمر الذي ربما يتعارض وفكر النظرية نفسها، وهنا يكمن الإشكال في هذا، وبخاصة أننا نبحث عن نظرية وليس نظريات، وعن منهج وليس مناهج، فكيف سيتم التطويع والتمثيل والتطبيق؟!

وبهذا فإن تقييم المرحلة كاشف عما تريده، وما يريده كتابها في المجال الذي عملت فيه، وبالأخص الثقافي والإبداعي الذي لا يلغي الماضي أو التاريخ أو الحضارة أو الثقافة. إن الحياة السياسية والاقتصادية في العالم العربي، وتلك النزاعات التي عادة كانت من أجل المصالح الذاتية، فضلاً عن حضور الكتاب والنقاد والمنظرين في الغرب ليس كما هم في العالم العربي، حيث متطلبات الحياة وتلبية حاجات الإنسان اليومية، التي يمكن إيجادها بطرق تختلف تمامًا عما في عالمنا الذي يبقى المشتغل بالنقد تطبيقًا وتنظيرًا، يمارس دوره في الكتابة من جهة والبحث عن لقمة العيش من جهة ثانية، وعدم تقدير المؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية بتقدير دوره ماديًا ومعنويًا. من هنا يصاب بنوع من العطب والتراجع وعدم تحمل المسؤولية التي يمكن أن يضعها هو والمجتمع الثقافي على عاتقه المعرفي. من هذا المنطلق بدأ العربي يتكئون على ما يأتي من الآخر من النظريات والمناهج، والعمل على محاولة تطوير ما يمكن وتطبيقها على النصوص، وهذا الأخذ والانتـشار منذ القرن الثامن عشر ورلى يومنا هذا. 

والأدب في صورته العامة هو فن عالمي لا تحدده أمكنة أو أزمنة إلا في سياق الدراسات البحثية أو الأكاديمية، وهذا لا يعني خصوصية هذا الأدب ومكانه من غيره. وحين نعود إلى الأدب الخليجي فإننا نعني هنا السرد والشعر بعد أن حولنا المسرح إلى عالم الفن، الأمر الطبيعي أن هناك خصوصية لأي أدب كان، فلو عدنا بالذاكرة الثقافية الأدبية والتاريخية ووقفنا على المعلقات سنجد خصائصها متفردة عن غيرها من النصوص التي كتبت في العصر ذاته ولكن في ثقافات وأمكنة أخرى حيث الوقوف على الأطلال والرحلة والحرب والمغامرة والحكم وغيرها، ولا شك أن النظريات والمناهج النقدية التي أنبتت في الغرب، ونمت وترعرعت بفضل منظرين ونقاد وأكاديميين غربيين، فإنها تجاوزت المكان ورحلت مسافرة إلى أمكنة ثقافية وبقاع معرفية أخرى، إذ تلقفها العرب المشتغلون بالنقد والأدب والثقافة، كما تلقتها المناطق الأخرى، وعلمت من خلالها الدراسات التطبيقية تحليلاً وتأويلاً وتفكيكًا، بعد تطويعها قدر الإمكان، وهنا نقول: لماذا الحاجة إلى النظرية الأدبية النقدية؟ من أجل فهم الحياة والإنسان والظواهر والمشكلات التي يتناولها الأدب نصوصًا. ففي العصور السالفة كانت الحياة الثقافية والاجتماعية تهتم بالنص الأدبي كتابة واشتغالا وثم نقدًا، وإن كان في الأصل على النص الشعري، لكن مع تطور الحياة الثقافية وتشعبها، وفي سياقاتها التاريخية والثقافية المتعددة الزمكنانية، بدأت النظريات العربية آنذاك محل تقدير من قبل المشتغلين على النصوص غير الشعرية.

إن النظرية الأدبية أيًا كان مصدرها ومنبتها وشيوعها في المكان والزمان، لابد أن تبنى على أهمية الدور الذي تقوم به في أهمية اللغة والمفردة والانزياحات، لذلك حضور التصورات في النظرية تجاه الأشياء والأفكار واللغة وما شابه ذلك، ولكن أتصور الحرية المتاحة لوجود نظرية نقدية محدودة جدًا، وبل طريقها عامة مملوء بالأشواك والعراقيل التي تقيد بناء النظرية أو ظهورها في عصرنا هذا، العصر الذي لم تعد الأمكنة أو الأزمنة حاجزين مانعين من توظيف أي منهج أو نظرية قادمة من مكان آخر، كما أن الفارق بين ما يأتي من الغرب أو من الآخر تنظيرًا، فقد أنبت هذا الإنجاز في عالم الحرية المطلقة، والتي تلغي أي مقدس في العمل الإبداعي مما ينعكس على النظرية ونشوئها، على اعتبار أن النظرية لا يمكن الخروج بها إلا بعد دراسة أنظمة النص الإبداعي وتراكم هذه النصوص التي تصل بالمنظر إلى ابتداع منهج أو تأسيس طريق نقدي أو رسم ملامح نظرية نقدية، فما جاء به سوسير أو بارت أو تودوروف أو دريدا أو كرستيقا أو المنظرون في مجال العلوم الإنسانية، سواء في عالم النفس أم علم الاجتماعي أم الأنثروبولوجيا وغيرهم من المنظرين الغربيين، فإن ما قدموه جاء بعد تراكم الدرس والتمحيص تجاه النصوص الإبداعية والاجتماعية.

لاشك هناك من فريق من الكتاب والمبدعين العرب ينادون بوجود نظرية نقدية منطلقة من فضاء العالم العربي، وهناك آخر يرفض هذا التوجه جملة وتفضيلاً، وفريق ثالث بين هذا وذاك لأنه لم يحسم أمره. ومن هذا المنطلق ألا ينبغي علينا نحن المنتمين إلى عالم الكتابة والإبداع أن نقف وقفة صريحة نقدية لما هو موجود من تراكم نصوصي في مجال الأدب والفن؟ فحين نؤمن بوجود نظرية نقدية فإننا نبنيها ونشيدها وفق ما يعطينا النص العربي الحديث من أسباب تفرض علينا التفكير والبحث والعمل من أجل هذا النظرية النقدية أو هذا المنهج النقدي، لكن ولنكون أكثر صراحة، إذا كانت جل النظريات التي نعتمدها الان في دراساتنا التطبيقية قد بنيت على قواعد النص، فهل قواعد نصنا قادرة على ما كان في نص الآخر؟ وهل لدينا الإمكانات والقدرات التي تقوينا لنقد كل المسلمات التي لم تعد فارضة نفسها في النظريات الغربية؟ فلم تعد النصوص الأدبية محصورة في أدبيتها فقط، بل في سياق النقد الأدبي والثقافي وارتباط النص الأدبي بالعلوم الإنسانية الأخرى، فنحن علينا أن ننظر شمولية النص من حيث التكوين والبناء والتناول والطرح، وليس غلق النص تحت الأدب ونكتفي كما كان في الماض. بات النص الأدبي هو نص أدبي ثقافي.

هل نحن العرب في حاجة إلى بناء نظرية نقدية؟ وإذا كان، أية نظرية نريد، هل بناء على النصوص المنشورة في عصرنا هذا التي كثير منها بحاجة إلى إعادة نظر في بنائها قبل أن نجعلها عتبة الدرس النقدي؟ هل نحن بحاجة إلى نظرية أدبية خاصة تهتم بالنص الأدبي عامة؟ أم نحن بحاجة إلى نظرية تصل لنا وتمفصل الجزئيات من هذا الأدب، بمعنى: هل نريد نظرية ذات مقولات عامة يمكن تطبيقها على زي نص أدبي؟ أم نظرية متفرعة بفروع النصوص الإبداعية من شعر وأنواعه الثلاثة (القصيدة العمودية – قصيدة التفعيلة – النص النثري)، ومن سرد وتعدد أنواعه (قصة – رواية – قصة قصيرة جدًا – الحكم والأمثال – السيرة بأنواعها (السيرة العادية – السيرة الروائية – رواية السيرة)، وأدب الرحلات، غير ذلك. وكذلك المسرح إذا صنفناه ضمن النصوص الأدبية، وبأنواعه الجاد والهزلي، العادي والميلودراما. أم نحن بحاجة إلى نظرية شاملة للعلوم الإنسانية كلها بما فيها النقد الأدبي والنقد الثقافي.  

أليست النظريات التي يشكلها الإنسان بعد معارف وتجارب وتطبيقات تصل بنا إلى أن تكون هذه النظرية أو تلك علمًا وليس فنًا، والعلم لا يقتصر على مكان ما أو زمان ما، بل هو منجز إنساني عابر للقارات والمحيطات ويستوطن في أي مكان يريد أو يُطلب، بمعنى حينما ظهرت لنا المناهج النقدية والنظريات الغربية، من الواقعية الاشتراكية والواقعية السحرية، والسيمائية والتأويلية والبنيوية والتفكيكية ونظرية التلقي، هل استقرت في مكان دون آخر، أم تلقفها المبدعون والنقاد والمشتغلون بالنصوص تنظيرًا وتطبيقًا؟ وهذا ينطبق ليس على الأدب فحسب، بل كل العلوم ذات العلاقة بالحياة والإنسان والكون، حيث العالم كالهواء والماء، وحينما نتفق على أن النظريات النقدية حتى تصل إلى مستويات عليا، فهي علم، لذلك تصبح هذه النظريات عالمية لكل البشر دون استثناء.

وهناك إشكالية تتمظهر في الدعوة إلى نظرية عربية نقدية، تتمثل في علاقة الأنا بالذات نفسها، وبالآخر، وبالمقدس، وبالنصوص الأخرى ذات الطابع اللغوي والأدبي، وبخاصة إذا آمنا أن النقد في حد ذاته هو إعادة كتابة نص على نص، وهنا قد تبرز بعض العوائق في التعامل مع بعض النصوص، كما أن هذه النظرية التي ينادي بها البعض، هل ستكون محصورة على العالم العربي؟ وإن كان ذلك، فهو يشكل انغلاقًا على الذات، الأمر الذي لا يتوافق وطبيعة العمل النقدي عامة والنصوصي والتنظيري بشكل خاص، حيث كل نص ينتجه الكاتب فهو ملك للجميع وليس لفرد أو مجموعة أو لغة أو منطقة. ومن ينادي بوجود نظرية نقدية عربية، كأنه: يتعلق بالهوية القومية ويرتبط باللغة والإنجاز الحضاري لشعوبنا العربية، وفي الحقيقة أننا نعاني ليس من عدم وجود نظرية أدبية نقدية عربية، بقدر ما نعاني من حاجتنا إلى قراءة واقعنا العربي قراءة واعية في كل حقولنا، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها من شئون الحياة، وهذا يعني إذا آمنا جدلاً بمناداة لوجود نظرية عربية نقدية، فالواقع المعيش يفرض أن تكون لنا رؤية فلسفية أولاً لواقعنا الذي يحتاج إلى التحليل والتأويل والتفكيك.

ومع أي متابع حصيف للمنجز العربي الأدبي والثقافي، يتساءل حينما يقرأ أو يسمع من ينادي بوجود نظرية نقدية عربية، التي هي في الأصل لا يمكن لوجودها إلا وفق معطيات وشروط وعوامل متعددة تسهم كلها في بلورة هذا التصور الذي سيكون بعد المخاض في طريقه إلى المنهج أو النظرية، حيث قبل المناداة بوجود نظرية نقدية أدبية عربية، فإننا بحاجة إلى فلاسفة الأفكار التي تعنى بالتأملات والتأويلات للنصوص واللغة وغيرها، وأن نستحضر جل مقولاتنا القديمة التي استطاعت تشييد الحضارة وبناء ثقافة المجتمع، وتطور وعيه، وشحذ تفكيره تجاه العديد من القضايا الإنسانية ذات الصلة بالنص الأدبي، كما عليما أن نعي جيدًا أن الأدب والنقد لهما قواعد متينة وصلبة تتمثل في مجموعة من التصورات والرؤى، التي تشكل طريقًا معرفيًا للإبداع والنقد التنظيري والنصوصي.

وهل يعلم العالم العربي ومن ينادي بوجد نظرية نقدية عربية، أن أي منهج نقدي أو نظرية نقدية، سواء تعلق الأمر بالأدب أو بالعلوم الأخرى، فهذا لا يخرج عن ضرورة الانتباه إلى أن أية نظرية لا تكون محصورة في مكان معين أو لقوم دون آخر، لأن النظرية في صميم تكوينها مرتبطة بالبشر دون استثناء، هي إذن إنسانية، كما أنها ينبغي أن تبتعد عن الأدلجة الدينية أو السياسية أو الطائفية أو ما شابه ذلك، بمعنى ألا تقف النظرية عن المفاهيم المغلقة، مثل: العروبة أو القومية أو الدين أو الطائفة، لأن هذا يشكل خطرًا على طبيعة تشكل هذه النظرية أو هذا المنهج، وهنا يتطلب الأمر أن تكون مبادئها وعناصرها قادرة على معالجة كل القضايا دون استثناء، بل تملك السبل والإمكانات التي تؤهلها للإجابة عن الاستفسارات العالقة في لغة النصوص، وطبيعتها وتشكلها، وغير ذلك، بالإضافة إلى استعداد هذه النظرية للتعديل بين الحين والآخر وفقًا لمتطلبات المرحلة زمنيًا وثقافيًا، وتواصلاً مع الآخر، أي ألا تحدث قطيعة مع الثقافات الأخرى، ولكن للأسف كونها نظرية ذات اسم محصور في العرب، يعني تتصف بالانغلاق، إذ لم نسمع أو نقرأ عن نظريات النقد عامة أنها صنفت على دولة ما أو مكان معين، وإنما يحضر صاحبها ملاصقًا لها. فحين نتحدث عن البنيوية يحضر لنا دي سوسير، أو التفكيكية لدريدا، ولكن لا نقول هذه نظرية فرنسية أو أمريكية أو إنجليزية، إلا إذا خرجت من المؤسسات الأكاديمية لما لها من إطار علمي يخص حقوق الجامعات والمعاهد والمؤسسات الأكاديمية. فكيف لنا أن نوسم ما ننادي به بنظرية عربية؟!