مسؤوليّـــة!

0
28

لاشك أن المسؤولية واجب أخلاقي لابد أن يلتزم به الفرد تجاه نفسه أولاً وتجاه الآخرين، ولا أعني هنا بالآخرين فئة معيّنة من الناس بل أعني كل الناس والحيوانات والطيور والبيئة والكتب وكراسي الحديقة والمرافق العامة…بمعنى آخر: كل شيء.

الحريّة مسؤولية، الزواج مسؤولية، العائلة مسؤولية، التزامك بقواعد المرور مسؤولية، احترامك لعامل النظافة مسؤولية، تقديرك لوقت العمل ومتطلباته مسؤولية…الخ. كلها مسؤوليات يكون الإنسان ملتزماً بها إذا أراد أن يكون أخلاقياً.

مقابل كل تلك المسؤوليات العديدة ثمّة أشياء أخرى قد دخلت و رُبِطت بالمسؤوليات وهي في حقيقة الأمر ليست سوى نوع من الإستغلال بل حتى أن بعضها قد يصل إلى مستوى الإستعباد، وقد يوهَمُ الفرد بها حتى يظن أنه يمارس مسؤولياته الملزِمة لسلوكه وعمله.

محال أن يكون استعباد البشر عملاً أخلاقياً حتى لو حاول البعض تبريره بوصايا وكليشيهات أكل عليها الدهر وشرب، إنه لايُبَرر. أن تسلب الإنسان ذاته وعقله وجسده وطاقته لتوظفها في خدمتك وخدمة مصالحك وامتيازاتك، أن يرتفع مقامك وتنمو على حساب ذلك المُستَعبَد الذي يضمحل ويفنى، تزداد غنىً ويزداد هو فقراً، فلا يمكن لهذا التناقض أن يكون عملاً أخلاقياً، وبما أنه ليس عملاً أخلاقياً، فهي ليس، إذن، مسؤولية أن ترضى لنفسك باستعباد الآخرين.

وقد يستدرجك آخر ببعض الحِيَل والمكائد والوعظ المقلوب ليوهِمكَ أن استغلاله لك مسؤولية تقع على عاتقك، على سبيل المثال للحصر: يعرض عليك مديرك في العمل مسؤوليات إضافية فوق مهامك التي تمّ الإتفاق عليها في عقد العمل دون أي مقابل تعويضي مادي أو معنوي لجهدك المضاعف ووقتك، ودون حتى أي اتفاق مسبق يتم فيه التشاور بينك وبينه وأخذ رأيك بعين الإعتبار إن كنت تقبل هذه المسؤوليات الإضافية التي ألقيت على عاتقك أم لا، هل تناسبك أم لا، ويتم فرضها عليك وإذا قلت: لا، أو قلت: من حقي أن أقبل أو أرفض تلك المسؤوليات الإضافية وخصوصاً أنها ليست مسجلة في عقد العمل، قامت الدنيا ولم تقعد، يتم وضعك ضمن خانة الأشخاص السيئين وتوصم بأنك رافض لمسؤولياتك في العمل وبالتالي فإنك لست كفؤا.

هذه مغالطة كثيراً مايعمد إليها مدراء الأعمال تجاه مرؤسيهم ليستغلوا ويمتصوا أكبر قيمة وأكبر طاقة ممكنة من العامل مايبدد طاقاته ويجعله منهكاً يقضي عمره كله محاولاً استكمال تلك المسؤوليات التي لاتنتهي مقابل مرتبه الشهري  الذي لايزيد في المكيال إلا بمقدار حبّة شعير، العامل في هذه الحالة أشبه بفأر الهمستر الذي يدور داخل عجلته التي وضعت له، كلما أسرع في خطوه كلما زادت سرعة العجلة دون أن يقطع مسافة شبرٍ واحد الى الأمام. إن هذه المغالطة الصريحة ليست سوى استغلال جشِع واستلاب يبدد شخصية العامل ويصادر رأيه وحقه، ويستغل حاجته الماسة للعمل دون مراعاة – اذا استثنينا الدعاية الشكلية – أية قيمة إنسانية لذلك العامل المُستلَب المغلوب على أمره، والمحصورٌ بين الحاجة والإستغلال.

الإستغلال والإنتهازية والإستلاب لا يمكن أن تكون عملاً وواجباً أخلاقياً، فمن الإنحطاط الأخلاقي أن يستغل الإنسان انساناً آخر، ويجعله ذليلاً في قبضته وتحت رحمته، أيُّ خسّة ودنائة نفسٍ أنكى من هذه! وبما أن الإستغلال وما لفّ لفه ليست أعمالاً أخلاقية فهي إذن لا تندرج بالمطلق ضمن خانة المسؤوليات، بالتالي لا يجب على الإنسان أن يرضى باستغلاله بحجة المسؤولية.

النقطة المركزية – في تصوري – تتمثل في الوعي الذي يميِّز به الإنسان الصواب من الخطأ، الحسن من القبح، الحقيقة من مدّعيها، الوعي الأخلاقي  العقلي (ملكَة الحُكم) الذي يتيح للإنسان إدراك الواجب والمسؤولية الأخلاقية التي يجب عليه ممارستها من تلك التي تقع على الطرف الآخر التي لا تنتسب للمسؤولية بشيء، هذا التمييز بين المسؤولية والمسؤولية المزيفة يجعلنا واعين قدر الإمكان حتى لا نقع فريسة لمخالب الإستغلال والإستعباد.

يرى إيمانؤيل كانط أن الشيء الوحيد الذي يتساوى فيه البشر جميعاً هو “العقل”. العقل الذي يتيح للإنسان اكتشاف المعرفة والتمييز بين الخير والشر، الحق والكذب، عن طريق تحليل المعطيات ومآلاتها، وبالتالي تجنب الألم والسعي نحو السعادة، هذه الآليّة التحليلية لا تأتي إلا عن طريق رفع مستوى الوعي لدى أفراد المجتمع، إضافة لكشف وتبيين بعض الطرق والأساليب التي قد تؤدي إلى استغلالهم ومصادرت حقوقهم وذواتهم وتحاول الحطّ من شأنهم والتقليل من قدرتهم على التفكير واتخاذ القرارات السليمة. طريق الوعي بهذه الأمور يبدأ بتحديد المسؤوليات ما يندرج تحت قوائمها الطويلة وما لا يمت للمسؤولية بصلة ولا يندرج ضمن قوائمها، إنما قد يرد بفعل التمويه والحيلة والمخادعة، ومفتاح هذا الإدراك هو الواجب الأخلاقي، بمعنى أن أي عمل ليس أخلاقياً ليس مسؤولية.