الكاتب ومعاناة النشر

0
102

الحديث في هذه الأمسية سيكون عن طباعة الكتب والنشر وهو حديث موجع وينكأ الجروح ويرش عليها الملح – كما يقال -، ورغم أني اعتبر نفسي محظوظة أني تعاملت مع دور نشر محترمة وعلى درجة من الوعي والصدق والحرفية و الجدية وقبل ذلك كان القائمين عليها من أصحاب الضمائر وممن يمتلكون التقدير لمعنى وقيمة العمل الأدبي، إلا أن ذلك لا يعني أني لم أشهد عن قرب ما تعرض له الكثير من زملائي الكُتاب على أيدي من سأطلق عليهم مجازاً تسمية عصابات “مافيا” النشر، وليعذرني أصحاب دور النشر الشرفاء منهم على ذلك ، فلم اعتد تسمية الأشياء والأمور إلا بواقع حالها . 

يمكنني بدايةً أن أصف عملية النشر بالرحلة الاستكشافية التي لن تستمتع بها ما لم تكن متهيئاً لكل الظروف التي قد تفاجئك وتعترض طريقك، ولن تتمكن من اجتيازها دون الرفقة الصالحة التي تعينك على مصاعبها، ودون أن تكون مطلعاً على خبايا عالمها وطرقها الوعرة!

كثيراً ما نتداول نحن الكُتاب الشكوى ما بيننا حول هموم وهواجس النشر، أكثر مما نتحدث عن عملية الكتابة ذاتها. وهذا في الحقيقة مما يؤسف؛ فحين يشغلك وعاء التقديم عن جودة ومذاق الطبق الذي ستقوم على طهيه فإن في الأمر مشكلة حقيقية!

في الواقع لا نستطيع إغفال أو إنكار أن عملية النشر ركيزة هامة من ركائز العمل الإبداعي التي لا تكتمل فصوله ما لم ينشر العمل ويصل بطريقة ما إلى القارئ وإلا فلا جدوى من العملية كلها، فمن وجهة نظري أن الكتابة التي تبقى حبيسة أدراج الكاتب هي كتابة أنانية وبخيلة وهي تشبه من يجري لقاءً حوارياً مع نفسه بين جدران أربعة، فلا يستفيد ولا يفيد منها أحد. 

في البداية لابد أن أوضح نقطة مهمة بعيدة عما يجرى في عالمنا العربي، وهي الكيفية التي تعمل بها دور النشر الغربية والتي أجد فيها الكثير من الحرفية والاحترام والتكريم والتقدير للكاتب والكتاب والعملية الإبداعية بشكل عام. 

في الغرب يقدم الكاتب عبر شخص “وسيط” يمتهن ما يسمى بمهنة “الوكيل”؛ فصل أو فصلين من كتابه إلى دور النشر، وما أن يتلقى الكاتب الموافقة على فكرة كتابه وموضوعه، حتى تبدأ المداولات والمفاوضات حول المبلغ الذي سيتلقاه الكاتب نظير كتابة الكتاب لا نشره – فتكاليف النشر والتوزيع ستتولاها دار النشر لا الكاتب -، ومتى ما تم التوافق على الشروط والمبلغ المالي، حينها فقط يشرع الكاتب في العمل وفق جدول زمني متفق عليه للانتهاء وتسليم مخطوط كتابه للنشر. وقد أكد على هذه العملية الروائي العراقي محسن الرملي في معرض حديثه عن روايته الأخيرة (بنت دجلة) حين ألتقيته مؤخراً. 

هناك في الغرب الكاتب يكتب وقد تسلم قيمة أدبه وأجرة حبره ولن نكون مثاليين وندعي أن الكلمة لا تقدر بثمن لأن بعض الكُتاب لا يجدون ما يعتاشون منه بكرامة إلا بما يكتبونه بمقابل مادي، وليس في الأمر ما يعيب، ولكنه على أقل تقدير يضمن للكاتب التفرغ والعيش بصورة كريمة، وبراحة نفسية تجعله يصب خلاصة فكره فيما يكتبه دون أن يشغل باله بتوفير الخبز لعياله أو الاقتطاع من قوتهم من أجل الطباعة أو توزيع كتابه ونشره؛ وكل تلك الأمور ملهيات تشغل بالنا نحن الكُتاب في العالم العربي وتحملنا ما لا طاقة لنا به، وقد تؤدي بالبعض منا إلى ترك الكتابة غير نادمين على ذلك.

أستطيع من خلال ما سمعته من تجارب الكُتاب ومن خلال تجربتي الخاصة في النشر وهي تجربة بدأتها منذ عام 2014، وسبقها خوض تجربة متابعة نشر كتاب والدي رحمه الله في 2010، عبر وزارة الإعلام وكانت ايضاً تجربة لها خصوصيتها، أن أصنف الكُتاب إلى نوعين: 

نوع كل ما يهمه هو أن تصل تجربته الإبداعية للقارئ أياً كانت المبالغ المالية التي يتكبدها، وعن رضا وطيب خاطر مؤمناً بأن ما يقدمه هو رسالة وشغف، دون اكتراث منه مستنداً على مقدرته المادية.

ونوع آخر يبدأ في إجراء حسابات مطولة للربح والخسارة من العملية مادياً ومعنوياً، ولا ننكر عليه ذلك فالمسألة ليست كما يقال (موت وخراب ديار)، فللكاتب حقه في أن يكتب وأن يتلقى ما يليق بالجهد الذي بذله وأيضاً هو نوع من التقدير لقيمته الأدبية. ويحضرني هنا موقف تعرضت له في إحدى المحاضرات التي قدمتها في إحدى المدارس الثانوية حين سألتني طالبة عن المردود المادي لما أكتبه، فأجبتها بعفوية: إن كان ما تتطلعين له من عملية الكتابة ينحصر في المردود المادي أو الشهرة فما عليك إلا أن تبدأي في مشروع لبيع (ورق عنب) على الانستغرام بدلاً من الكتابة، لا تقليلاً من شأن أصحاب المشاريع الصغيرة الذين أكن لهم كل الاحترام والتقدير، ولكن هذا هو الواقع المرير.

فبالنسبة للمردود المادي فنحن حرفياً نصرف أضعافاً على ما نكتبه أكثر مما نربح مادياً، أما بالنسبة للشهرة فينطبق علينا فيها المثل الشعبي (الصيت ذايع والبطن جايع)، ولذلك كان الطُعم الأول الذي تضعه بعض دور النشر في شباكها لتوقع بالكُتاب هو: المغريات المادية والأسعار المخفضة.

عدد كبير من كتابنا مع الأسف يندفعون وراء اسماء لدور نشر غير معروفة تنبثق من العدم بين حين وحين فقط لأن أسعارها متدنية دون أن يضع هؤلاء الكتاب في بالهم مسألة (الموثوقية والأمانة، الإخراج الفني، سمعة الدار، الصدق في التعامل ولا حتى الانتشار والجدية في تسويق العمل الأدبي).

ومما يؤسف فإن كثيراً من دور النشر هذه الأيام ما هي إلا مكاتب لبيع الوهم والدجل، وما هي إلا متاجر للنصب والتدليس، هناك من يغريك بمبلغ قليل وما أن تقع في حبائله حتى تبدأ المبالغ المالية تتضخم وتتضاعف نظير خدمات قد تدفع ثمنها دون أن تُنفذ من الأساس.

ومن جملة هذه الخدمات (الغلاف، الخط، المراجعة اللغوية، الإخراج، نوع الورق، التوزيع، تكلفة الطباعة، الشحن، المشاركة في معارض خارجية، أوراق نقدية، مقابلات وإعلانات حول الكتاب، والأدهى من ذلك هناك دور نشر جديدة باتت تبيع ما أطلقت عليه اسم (خدمات تحريرية) وما هو إلا عملية بيع لنصوص جاهزة لمن يرغب في أن يحوز على بريق لقب (كاتب) أو روائي!

وهنا فقط يصبح الكاتب الحقيقي ضحية مرتين، ضحية لدور نشر تستغله وضحية لمنافسة غير شريفة مع مدعيّ الإبداع الأدبي الذين يتكاثرون من العدم في المجتمع الأدبي كالفطر السام! 

من خلال أحاديثي مع عدد غير قليل من الزملاء الذين وقعوا ضحية لمثل هذه الدور سأورد لكم بعض الحوادث المؤسفة التي وقعت: 

دار نشر تتفق مع الكاتب على طباعة لنقل 100 نسخة من الكتاب نظير مبلغ ما؛ يدفعه الكاتب من جيبه في حين أن المبلغ الحقيقي لطباعة الكتاب هو نصف المبلغ المطلوب، وبدلاً من أن تُطبع الـ 100 نسخة المتفق عليها تطبع 100 إضافية تتملكها دار النشر لتتاجر بها لحسابها.

دور نشر أخرى تتلقى مبالغ نظير مواصفات معينة، تتغير في النهاية إلى مواصفات أدنى وبذات الثمن.

دور نشر تتلقى أجور نظير توزيع الكتاب في معارض لا يُحمل إليها الكتاب ويبقى حبيس الصناديق الكارتونية، ومؤخراً حكى لنا بوجع أحد الكُتاب السعوديين حكايته مع دار نشر أغلقت أبوابها وأرسلت كتبه في صناديق كارتونية مغلقة لم تفتح طوال أعوام طويلة كان يظن فيها أن كتابه قيد التوزيع في المعارض الخارجية.

أيضاً هناك من يدفع نظير خدمات مراجعة لا تُنفذ، وأموال طائلة لشركات شحن باهظة بدلاً من شركات أخرى متوفرة بأقل الأثمان، ومبالغ لصور أغلفة تُسرق من الإنترنيت.

وشهدنا عدد من القضايا العلنية التي رُفعت على دور نشر عربية، ولكنها أُسقطت ببساطة بعد لجؤ أصحاب دور النشر إلى تغيير سجلها التجاري!

نجد دور نشر ترفض حتى الاطلاع على العمل الأدبي لأن اسم صاحبه لا يرقى أن يكون ضمن “شلة” كُتاب تلك الدار، أو أن للدار توجهاتها الأيديولوجية المخالفة لتوجهات الكاتب ولذلك تحرمه تلك الدار من بركة التعاون معها ونشر كتبه. 

شللية، محسوبية، وقلة اهتمام وكل ذلك لا يشير بأصابع الاتهام إلى دور النشر وحسب بل يضع الجهات الرسمية أيضاً  تحت طائلة من يسلب الكاتب حقه في أن ينشر ما خطه قلمه بيسر وكرامة.

لنترك المشهد السوداوي الذي حدثتكم عنه جانباً، لنتفاءل ونرسم مشهداً آخر.

ها قد طُبع الكتاب، وتراقص قلب الكاتب فرحاً بعد وصول نسخ لا تتعدى العشرين إلى يديه بعد أن استولت دار النشر على بقية النسخ التي طُبعت على حسابه بحجة توزيعها ومنح الكاتب ما لا تتعدى نسبته 20% من أرباح البيع ـ وصدقوني لن يصل فلساً واحداً منها إلى جيب الكاتب!

 لنبدأ المشهد؛ يظل الكاتب في حيرة كيف سيتصرف بنسخه العشرين هناك قائمة من المعارف والأصحاب والأهل تطالبه بنسخ مجانية كإهداء لن يقرأوه، ولديه رغبة في إهداء ناقد أو صحفي قد يتكرم ويشير إلى كتابه، ويرغب في إقامة حفل توقيع لن يجد له مكانًا ليقيمه، ويرغب في توزيعه في مكتبة محلية، وهنا تبدأ المعضلة كيف سيتصرف فما هي إلا مجرد عشرين نسخة!

يقرر أن يأخذها كلها إلى إحدى المكتبات المحلية، وهنا سيبدأ مشهد آخر لاستغلال الكاتب؛ حيث ستتكرم المكتبة بأخذ النسخ العشرين بعد أن تشاركه في أرباح بيعها بما لا يقل عن النصف، وعليه أن يكون ممتناً لذلك فهي قد تتكرم عليه بإعلان عن وصول كتابه، وقد ترفع من سعره دون أن تعلمه ويكون فارق السعر من نصيبها، وقد تترك كتابه في زاوية مظلمة دون أن تصل إليها يد قارئ قد يفكر في شراءها، وربما ستحملها إلى أحد المعارض وقد لا تفعل!    

هذه مشاهد بسيطة نمر أو مررنا بها ككتّاب، رسمتها لكم بشكل مقتضب وسريع، وتظلّ صورة مشهدية أخرى ترتسم في عقلي، أجدني ككاتبة أسبح في بحر غامض ومن حولي تحوم أسماك قرش مفترسة تنتظر الفرصة لتنقض على أطرافي، تنهش لحمي وتترك أشلائي تسبح في بركة من الماء المصطبغ بلون الدم.