الكتابة هي نقش على ذاكرة التاريخ. محاورة البحر والماء والتراب والسماء. محاورةٌ لا تنتهي فهي علاقة عشق سرمدية، فالكاتب هو عاشق أبدي للأرض وللوطن وللناس وللحياة. فإذا سألت كاتبًا ما هي أولوياته، لقال لك ربما الكتابة قبل الخبز. فالكتابة تنفس، صلاة.
هذه الجزيرة أنجبت أروع الكتّاب والشعراء منذ أزمنة طويلة، وما زالت هذه الأرض “ولاّدة”… قائمة طويلة من الكتّاب والشعراء يخرجون جيلاً بعد جيل محمّلين بالثمار الملونة والإبداع والخلق. انهم وجه هذا الوطن العظيم، انهم ذاكرته وتاريخه وقلاداته.. انهم صوت الوطن وأنفاسه المبدعة… انهم وروده الجميلة. كل العالم يحتفي بأدباءه وشعرائه ويكرمهم ويضعهم في أعلى القمم لأنهم يمثلون حضارة وثقافة وتاريخ البلد الحقيقي ,, انهم كالأهرامات الشامخة والشموس التي لا يمكن لأحد حجبها مهما تكاثف الغيم. في العصر الجاهلي مثلاً كان يكتبون قصائد الشعراء المرموقين بماء الذهب ويعلقونها في مكة لهذا سموّها بالمعلقات. هذه المعلقات ما زالت باقية في التاريخ والذاكرة الجمعية على الرغم من مرور القرون الطويلة.
عندما نذكر شكسبير او تي.اس.اليوت مثلاً نتذكر بريطانيا
عندما نذكر فيكتور هيجو او رامبو او سارتر نتذكر فرنسا
عندما نذكر لوركا نتذكر اسبانيا
عندما نذكر دوستويفسكي او تولستوي او بوشكين او مكسيم جوركي نتذكر روسيا
عندما نذكر ارنست همنغواي نتذكر امريكا
عندما نذكر بدر شاكر السياب أو عبد الوهاب البياني نتذكر العراق
عندما نتذكر طه حسين او العقاد او صلاح عبد الصبور او أمل دنقل نتذكر مصر
عندما نذكر عبد الله خليفة أو محمد عبد الملك أو قاسم حداد أو علي عبد الله خليفة أو أمين صالح أو حسن مدن نتذكر البحرين
نعم …. نحن نتذكر الشعراء والكتّاب أولاً ثم أوطانهم لأنهم هم الوطن الحقيقي .. انهم الصروح الشامخة التي تطاول العمارات وناطحات السحاب وتفوقها علواً وسمواً.
في البحرين لدينا قائمة طويلة من الأدباء والكتّاب والشعراء ولكن لا نقرأ لهم كثيراً ولا نجد نتاجات الكثير منهم على صفحات الصحف المحلية. كانت كل الصحف في السابق تفتح صفحاتها أمام الكتّاب بل وتدفع لهم مكافآت، على الرغم من تواضعها، لمن ينشر على صفحاتها الثقافية– ثم توقفوا عن استقبال المساهمات وعن الدفع أيضًا، باستثناء “أخبار الخليج” متذعرين بالأزمة المالية وكأن الشعر أو الأدب أمر هامشي. والكثير من رؤساء تحرير الصحف يضحكون ويقولون نحن لا ننشر الشعر أو الأدب فليس له قرّاء. طبعا الرياضة لها قرّاء. وهكذا ينشرون هذه الثقافة أو المفهوم البائس بقصد او بدون قصد ولأغراض تجارية أنانية بحتة. وما عادت الصحف تنشر أخبار الثقافة او تتناول الاهتمامات الثقافية المعاصرة أو تغطي الفعاليات الكثيرة في البلد بالشكل المطلوب وما عادت تعبر عن الوجه الحضاري لهذا البلد العريق الضارب جذوره في التاريخ… هذا البلد الذي كان دائما رائد الثقافة في الخليج وما زال كتّابه وشعراؤه هم الأكثر ابداعاً وحداثيةً، ووصلت شهرتهم الى معظم أنحاء الوطن العربي وبعض دول العالم. وأصبح معظم الكتّاب والشعراء البحرينيين ينشرون في المجلات الخليجية والعربية لضيق مساحة النشر في البلاد وعدم تقديرهم بالشكل المطلوب.
ويستثنى من كل ذلك مجلة “البحرين الثقافية” التي تصدرها هيئة الثقافة في البحرين التي ترحب بالجميع للكتابة فيها، غير أنها دورية تصدر كل ثلاثة أشهر وتستحق الشكر على ذلك. القضية في الواقع هي ليست قضية مادية والكتّاب والشعراء ليسوا ماديين يرتزقون من كتاباتهم بل إنها مسألة مبدأ ولا بد أن يكافأ الذين ينشرون على كتاباتهم، تقديراً لهم على جهودهم على الأقل حتى لو كانت المكافأة زهيدة المهم أن لا ينشروا بالمجان لأن هذا احتقار لهم وللثقافة ولا يستطيع الكاتب أن يهين نفسه ونتاجه الفكري او الثقافي. المعضلة الثانية التي بدأت تتفاقم هي قضية نشر الكتب، فالنشر تكلفته باهظة. تخيلوا معي أن تكلفة نشر رواية تتألف من 300 صفحة تقريبًا تكلف ما بين 800 الى 1000 دينار لدى دور النشر المعروفة ولعدد 500 نسخة وأحيانًا بدون تكلفة الشحن. والتكلفة الأقل يجدها الكاتب لدى بعض دور النشر الرخيصة ولكن الكاتب في هذه الحالة يساوم على مستوى الطباعة والتوزيع. فكيف يتحمل الكاتب هذه التكلفة الباهظة وبكم يبيع النسخة إذا علمنا أن أكثر المكتبات في البحرين تحتسب 50% عمولة على بيع الكتب وبعضها 40%.
أنا شخصياً أكتب الكثير وأنشر معظم كتاباتي على الفيس بوك وبعض الدوريات الخليجية اضافة الى أخبار الخليج التي فتحت أمامي صفحاتها بكل محبة. والحق يقال بأن الصفحة الثقافية في أخبار الخليج هي الأكثر تنوعاً وغنى وترحب بالجميع للكتابة فيها وهذا موقف رائع يسجل لها على الرغم من تقليص الصفحتين الى صفحة واحدة.
لا بد هنا من التنويه بأن هيئة الثقافة والآثار ما زالت مستمرة في طباعة بعض نتاجات الكتّاب وهذه نقطة تحسب لها لأنها تخفف عنهم على الأقل بعض الأعباء المالية وتفتح أمامهم الآفاق وفرص الانتشار. ولكن بسبب ضغط الميزانية – كما يقولون – لا تستطيع الهيئة طباعة الكثير، ويتوجب على الكاتب الانتظار طويلًا ربما سنتين مثلا أو ربما أكثر. وفي الفترة الأخيرة اتجهت الهيئة الى طباعة الكتب محليا ولدى مطبعة محلية للاقتصاد في التكلفة بدلا عن الطباعة والنشر في بيروت مما يضيق على الكاتب حدود الانتشار والتوزيع، لأن دور النشر العربية تقوم على الأقل بتوزيع الكتب خارجيا على الرغم من بعض المآخذ على دور النشر العربية.
وكانت هيئة والثقافة خلال سنوات عديدة تنظم مسابقة “الكتاب المتميز” لتشجيع الكتاب البحريني وتحفيز الكتاب والأدباء على الإبداع لكنها للأسف توقفت منذ عدة سنوات عن تنظيم هذه المسابقة لأسباب غير معروفة ولا يبدو بأنها سوف تعود الى سابق عهدها. كانت تلك المسابقة تشكل نوعا من الحافز وتقديراً بسيطاً للكتّاب على ابداعهم وجهودهم الخلاقة. إنني أتمنى من هيئة الثقافة أن تعيد النظر وإعادة تنظيم “مسابقة الكتاب المتميز” وأيضا أن تنظر بجدية في مسألة تفريغ الأدباء مثلما فعلت في الماضي مع عدد من الأدباء والشعراء لكي يتمكنوا من أن ينتجوا ويبدعوا بدلاً من أن يلهثوا وراء المتطلبات المعيشية التي أصبحت عبئاً لا يطاق لمعظم الكتّاب.
كل هذه الصعوبات هي أمور محبطة للكاتب وتزرع في نفسه اليأس من الاستمرار في الكتابة والإبداع. فلا يمكن للكاتب أن يستمر وجميع سبل الحياة الكريمة شبه مقفلة أمامه.
إنه من الضروري على الجهات المسئولة عن الثقافة أن تفكر جدياً في استحداث صندوق للأدباء والكتّاب والفنانين والمسرحيين لدعمهم وتشجيعهم إذا كانت جادة فعلا في دعم الحركة الثقافية والإبداعية في البلاد. إنني أعتقد بأن وجود تنظيم نقابي يجمع الأدباء والكتّاب ربما يكون حلًا ولو جزئيًا لدعم الكاتب عندما يجور الزمان. وهذا مطلب مثالي طبعا أرجو أن يتحقق.
كلنا نحلم، والحلم مسألة مشروعة أن تعود البحرين مثلما كانت طوال عقود ماضية مناراً للثقافة والإبداع ورائدة في الخليج وذلك لن يحدث إذا تركنا المبدعين بلا دعم حقيقي ودون اهتمام مثلما يحدث حالياً.
الصعوبات أمام الكتّاب في البحرين بإيجاز:
- ندرة فرص النشر في الصحافة المحلية.
- صعوبة طباعة الكتب لأن التكلفة باهظة.
- العمولات غير العادلة المحتسبة من قبل المكتبات على الكتب المباعة.
- قلة الإقبال على شراء دواوين الشعر ونسبيا القصص والروايات.
- عدم قيام المكتبات المحلية بعرض كتب المؤلفين البحرينيين في مكان بارز بل في الرفوف الخلفية التي لا يلاحظها أحد بحجة أن السوق هو الذي يحكم
- توقف الهيئات الرسمية عن تنظيم المسابقات الأدبية مثل مسابقة الكتاب المتميز التي كانت تنظمها هيئة الثقافة منذ سنوات.
- عدم وجود أي دعم يذكر للكاتب من قبل الدولة، علما بأن الهيئة منذ سنوات طويلة قد بادرت الى تفريغ بعض الأدباء والفنانين.