هاتفني الناقد فهد حسين قبل عدة أشهر، وأعلمني انه يعتزم إعداد بحث توثيقي عن المجالس الثقافية في البحرين، وقد اختار مجلسنا الذي سمع عنه وإن لم يحضره شخصياً، وقد تضمنت الاستمارة التي بعثها اسئلة عن بدايات المجلس ونوعية رواده وضيوفه والكتب والمناقشات التي طرحها، وهل ثمة وسائل اعلامية تناولته، وغيرها من الاسئلة التفصيلية، ولست أدري إلى أين وصل مشروعه لغاية اليوم، بيد أنني وجدتها فرصة مواتية للحديث عن هذا المجلس الذي أحببته وشغفت به وشكّل في فترة من الفترات أحد أجمل اوقاتي.
وكنت قبلها قد دوامت على حضور مجلس الناقد الأدبي أحمد المناعي الذي انطلق منذ الثمانينات، في بيته ووسط مكتبته العامرة واستمر هذا المجلس الاسبوعي لما يقارب الثلاثين عاماً، وقد تعرفت في هذا المجلس على نخبة من المثقفين والأكاديميين والضيوف العرب والأجانب الذين شكلوا زاداً معرفياً مهماً لي في مهنتي الصحفية (أجريت لقاءات صحفية مع الكثير منهم) ثم في مطلع عام 1992 اقدمت الشيخة مي الخليفة على إقامة مجلس ثقافي في منزلها بالرفاع وقد امتدّ لعدة سنوات واستضفته ذات مرة في بيتي.
ومن هذا اليوم اختمرت فكرة إقامة منتدى أو مجلس ثقافي شهري في بيتي، وكنت أقول للأصدقاء: إننا نلتقي باستمرار على موائد الطعام فلماذا لا نجعل أحد الكتب طبقنا الرئيس فنتحلق حوله ونناقش أفكاره ونشبع جوعنا الفكري والمعرفي؟ وهكذا انطلق المجلس عام 2007، وقد كانت البحرين في تلك الأعوام تعيش زمناً مزدهراً على مستوى الحريات والصحافة المتنوعة وانعكس ذلك على تقبل الفكرة والتشارك في رفدها، وكان المجلس حلقة أخرى ضمن سلسلة من التجمعات والمنتديات العديدة والمتنوعة العناوين والتي كانت تزخر بها البحرين في ذلك الوقت
وعلى المستوى الإجرائي فقد كنا نتفق عبر مجموعة صغيرة على استعراض كتاب ما ونرسل الدعوات للمشاركين قبل شهر كي يتسنى لهم الوقت لقراءته، ولا أنكر أن البداية انطلقت من جهد فردي، ثم سرعان ما اتسعت المشاركة وصار الأعضاء والعضوات يقترحون الكتب ويتطوعون لاستعراضها، وقد اتفقنا أن تكون هناك أولوية للكتاب البحريني وللمؤلفين من رواد المجلس باعتبار أن أهل الدار أحقّ من غيرهم، فكان البعض من الرواد ينتظر الفرصة للاحتفاء بأول انتاجهم بل وبتدشينها في هذا المجلس.
هل كان المجلس دافعًا للحماس وللإقدام على التأليف بالنسبة للبعض؟
أنا كنت أحد هؤلاء، والحق يقال إن ثمة امسيات كانت عامرة بالفرح وبباقات الورد وأطباق الطعام والكيك المزدان بأغلفة الكتب الصادرة حديثا فبدت لي وللحضور وللمؤلفين كعيدٍ ثقافي لا يضاهى، ولعلني لا أنسى استعراض كتاب “ايها الفحم يا سيدي” لشاعرنا المبدع قاسم حداد عام 2014، اذ استعرض فيها تجربته الشعرية ومراحلها الفارقة والتفرغ للإبداع والسفر في تجربة الفنان فان جوخ، وقد حضرت في هذه الليلة عائلة حداد بأجمعها كما تلقى فيها لوحة تشكيلية مستوحاة من أعمال فان خوخ من الفنان عباس الموسوي تقديرا لتجربته الثرية، ومن الكتب المميزة التي لا تنسى ، تلك الكتب العالمية التي تحولت إلى أفلام ووثائقيات شهيرة ككتاب “فن الحرب” ل سن تزو ، ورواية “1984” ل جورج اورويل و”الفخ أو ماذا حدث لديمقراطيتنا”؟ ل آدم كيرتس، ورواية “الحالة الغريبة لبنجامين بوتين” للمؤلف سكوت فيتزجرالد وغيرها من الكتب التي لا يتسع هذا المقال لذكرها.
وذات أمسية وكنوع من إضفاء مسحة من التغيير والحيوية والاختلاف، اخترنا الحديث عن أجمل وأفضل الكتب التي قرأها رواد المجلس، وكان لها تأثير كبير على مسارهم الثقافي والمهني وكان بعضها دافعا وملهما لهم لدخول حقل التأليف والكتابة.
ولم أجد حماسًا من محرري الصفحات الثقافية لتغطية هذه الفعاليات، ربما لازدحام البرامج السياسية في ذلك الوقت رغم الدعوات العديدة التي وجهتها لهم او ربما لانتفاء طابعها الرسمي أو المؤسساتي، إلا أنني وظفت تلك الأمسيات الزاخرة بالأفكار والآراء المختلفة والمتنوعة حول الكتب والروايات في العديد من مقالاتي التي كانت تنشر في صحيفة “الأيام” ومجلة “كل الأسرة” الإماراتية، كما قام أعضاء المجلس المشاركون في استعراض الكتب بنشر اوراقهم وملخصاتها على منصاتهم الإلكترونية العديدة.
في مايو عام 2018 استعرضت باسمة القصاب واحمد رضي رواية “ألمحيط الإنجليزي” للراحل فريد رمضان الذي غادرنا بعد عام ونصف من تلك الأمسية، وقد احتفى الحضور عائلته واصدقائه وناشر روايته وعشاق ادبه بالراحل وبالرواية التي كانت آخر وأهم انجازاته الادبية.
كان للكتاب البحريني ورواده الأفضلية والأسبقية في استعراض كتبهم في هذا المجلس، كحسين المحروس، فضيلة الموسوي، عبدالنبي العكري، وداد كيكسو، فريد رمضان، قاسم حدادـ، عقيل الموسوي، عبد الحميد المحادين، د. عمر الشهابي، فوزية مطر ، د حسن مدن، نادر كاظم، بعد احداث الربيع العربي واكب المجلس التطورات السياسية، فحضرت الكتب والنقاشات المتعلقة بهذا الحدث الذي هزّ العالم العربي وانعكس على مجمل حياتنا، فكان أن التأم الحضور مجددا على مائدة كتاب الدكتور نادر كاظم “انقاذ الربيع العربي” ثم كتاب اخر هو “لماذا العرب ليسوا احرارا ” ؟ للمؤلف مصطفى صفوان. في ديسمبر عام 2019 حلّ وباء كورونا فتم حظر ومنع التجمعات واللقاءات وتوارى المجلس وانطفأت أنواره وتراجع الحماس للقاءات الواقعية على الارض خشية المرض، وتساءلنا هل نتوقف أم نبحث عن بديل لهذا النشاط الممتع في اللقاءات الافتراضية ووفق تقنية الزوم الالكترونية على سبيل المثال؟ وتبين لنا ان الكثيرين لم يستحسن الفكرة باعتبار أن المجلس كان ومنذ انطلاقه تجمعَا بشريًا ومناسبة للتلاقي والتفاعل والتواصل الانساني، وانه لا ضير من الانتظار او التعايش مع الجوائح المقبلة بأكبر قدر من الاحترازات الوقائية لضمان استمراريته في نفس المكان والزمان، ومنذ ثلاث سنوات وانا اتلقى من الاصدقاء ومن رواد المجلس الدائمين تحديدا – الذين تفرغ بعضهم للكتابة والتأليف خلال جائحة كورونا – اسئلة من قبيل متى يعود المجلس؟ ومتى تجيء قراءة كتابي؟