مُدُن المِلح (5)

0
67

 المُنبت

في هذا الجزء من “مدن الملح” وهو الخامس والأخير والأصغر حجماً من بقية الأجزاء، يلقي عبدالرحم منيف الضوء عبد الرّحمن منيف في بدايته على مغادرة السلطان الأسبق خريبط إلى مدينة بادن بادن بألمانيا في رحلة شهر عسل مع زوجته الجديدة إبنة الدكتور المحملجي (سلمى) وكيف كان استقبال طاقم السفارة له هناك مليئاً بالحفاوة والمرح، حيث هيىْ له ولعائلته ومرافقيه الكُثر لهم فندقين، مقابل القصر الذي يعيش فيه السلطان، الذي كان مأخوذاً بجمال البلد الذي حلّ به، ويتمنى لو تكون موران بجمال المانيا. 

ولكن ما صدم السلطان بعد ذلك الأخبار التي وردت إليه من موران حيث تمّ عزله، وهنا يصف لنا مُنيف الحالة التي كان عليها: “والله، والله لوظل بعمري ساعة واحدة  ما أتركهم ولا أخليهم يفرحون” .في الأثناء وبعد أسبوع  وصل الدكتور المحملجي بعد أن تمّ طرده، حيث بدا متعباً مريضاً بعد الذي جرى ليروي للسلطان ما حصل في موران وكيف تمت إزاحته، ومن هم المتورطون في عملية الإنقلاب “لم يكد صاحب الجلالة يغادر موران حتى سوّلت للبعض نفوسهم المريضة الإصطياد في الماء العكر والتآمر تحت جنح الظلام”. الحالة النفسية التي يعيشها السلطان المعزول جعلته لا يثق في أحد، فتحدث عن الزمان وغدره وخياناته،عن الأصحاب وتخليهم،عن الأخوة وكيف تغيروا، وعن الناس وكيف إنهم يقفون مع القوي، وبأسى صار يردد بيت من الشعر: “وظلم ذوي القربى أشد مضاضة/ على النفس من وقع الحسام المهند”.

أما المحملجي وبعد أن غرق في حزنه فقد “دارت به الدنيا،غامت ثم اسودّت، اضطربت ثم عصفت. أصبح صغيراً مسحوقاً، ذرة رمل في ريح، شيئاً لا وزن له ولاقيمة”. في هذا الجزء من الخماسية يجول بنا المؤلف في أعماق الوضع الحاصل بعد تنحية السلطان خزعل  عن الحكم ومكوثه في بادن بادن والمشاكل والإشكالات التي تحدث مع مرافقيه وزواره، وعند وصول زوجته الأميرة عدلة والتي أصبحت امرأة أخرى وعدد من أولاده خلق ذلك وضعاً جديداً للسلطان، وبوصولها كان حريصاً على معرفة أدق التفاصيل ومعرفة موقف كل فرد من تلك الأحداث التي هزت عرشه، إلا أن تلك الزوجة أتت وفي رأسها خطة تطليق السلطان من زوجته الجديدة بنت المحملجي وإبعاد عائلتها عن السلطان، وهذا ما قامت به فعلاً بعد أن صدّق  السلطان كل ما يقال له عن الحكيم وعن إبنته سلمى.

وبتلك الصورة التي رسمها المؤلف في هذا الجزء من الرواية عن المحملجي سار حتى النهاية في وصف الاحداث التي تلت تطليق إبنته وأثر ذلك على العائلة وما نتج عنه من مرض، فظلّ الشك يلازمه حول طبيعة الناس وسلوكهم: “الظلمة تتسلل بخفاء ثم تتكاثف، ومع الظلمة يظلم قلب الحكيم أيضاً، كان يشعر بانقباض إلى درجة الكآبة”. يواصل المؤلف في معالجة الاحداث التي مرت على الحكيم بعد طلاق إبنته وارتحاله معها إلى فندق ستراسبورغ في جنيف بسويسرا وكيف أصبح يعيش حالة من الخوف والقلق من أن  يلاحقه أحد من جماعة السلطان الجديد فنر، فظل متوجساً، مهموماً، حتى صار  يخاف  الرجوع لفندقه، ويغيّر الطريق والإتجاه: “عليه أن لا يدخل  في أزقة  جانبية أو مظلمة، لأن القتلة   يخافون  الأضواء والبشر. فأخذ يتخفى ويغير عاداته وأماكن تواجده، حتى إنه أخذ يغير شكله فحلق لحيته، فما أن يطلب المصعد حتى ينزل بالدرج، ظلّ فريسة لهذا الخوف طويلا، فقد الأمان والراحة والإستقرار النفسي. وزاد من هذا الوضع إبتعاد عائلته عنه، إبنه غزوان وزوجته وداد، كل ذلك جعل من مصيره مجهولاً.

“يرتجف الحكيم، تمرّ الصور في رأسه، فتخرج الكلمات من بين أسنانه”، فغزوان الذي رتب أموره جيداً وأصبح لا يُستغنى عنه لدوره في ترتيب الصفقات لم يعد له الوقت الكافي لمراعاة والده، ووداد إنشغلت بإدارة الأملاك التي تركها الحكيم في موران. وبعد أن اشترى الحكيم قصراً في نيون بسويسرا وأطلق عليه قصر(الخير الأوربي)وسكن هو  وإبنته  سلمى  فيه، زادت همومه وهواجسه”، وبدأ يفكر في حياته كلها، يستعرضها، بكل تفاصيلها، من جديد، فلا يعرف أين أخطأ أو كيف”.

صورة أخرى يركز عليها عبدالرحمن منيف هي سلمى إبنت المحملجي؛ كيف دخلت القصر بعد تزويجها وهي صغيرة عنوة بالسلطان المخلوع وكيف خرجت من القصر مكسورة حزينة دون أن تحمل معها أي شيء بعد أن اعتبرت شؤماً وقدماً سوداء، وربما تسببت فيما وقع في موران. تتابعت الأحداث وتشعبت، ولكن ظلّ الوصف الدقيق للمؤلف لأحوال من بقوا بعيدين عن موران في بادن بادن في المانيا مشوقاً وذا أبعاد عميقة، فلكل شخصية من تلك الشخصيات هموم ومشاكل وأفكار استطاع منيف أن يربطها ببعضها ربطاً محكماً،  بدلالات سياسية.

في هذا الجزء من الخماسية زاوج المؤلف أيضاً بين الشخصيات المتعددة وشخصيات أجنبية سواء أمريكية أو المانية، وأضاف بذلك عنصراً مهماً؛ ألا وهو تداخل الوطني مع الأجنبي ومدى تطابق أو تنافر المصالح بين الطرفين أو مجموع تلك الأطراف، فحتى الأمور التي لا ترد على البال قام عبد الرّحمن منيف ببحثها وتسليط الأضواء عليها كطلب السلطات الألمانية صوراً شمسية، واحضار مصور لكي يقوم بتصوير النساء وكيف كان ذلك المصور وأدوات التصوير،وانشغال من في القصر بالمصور. إنه يوم حافل ظل الكثيرون، بل الجميع، يتذكرونه، حتى بعد المآسي التي وقعت في وقت لاحق”.


لم ينس الكاتب حتى أحوال الخيول التي وصلت بادن بادن كتعبير عن المودة للسلطان خزعل، “فقد وصلت كوكبة من الخيول العربية الأصيلة: اثنان هدية من فنر، واثنان هدية من مهيد ومزعل، وثلاثة من قصر الخالدية،  تلك الخيول التي لم تتأقلم مع الأجواء الباردة فكانت ضعيفة وحزينة، حركتها بطيئة، غير متوازنة”، عيونها مليئة بالحزن والعذاب، أما استجابتها للأكل والصفير، أو للمداعبة فكانت في حدها الأدنى، أو أقل من ذلك”.

وفي الصفحات الأخيرة  هذا الجزء من خماسية “مدن الملح” يتطرق المؤلف إلى ما آلت اليه العلاقة بين الأخوة الأمراء، والسبب وراء سفر زوجات السلطان من بادن بادن ورجوعهم إلى موران بعد أن رتبوا للسلطان عروساً جديدة (ياسمين) شبيهة بسلمى من حيث العمر، وبياض البشرة، والهدايا التي رافقت العروس، وكان ذلك بمثابة خلق وضع جديد للسلطان المخلوع مقابل سكوته وكأنما يهئ له من أن بقاؤه سيطول دون أمل في الرجعة لموران، فأصبحت العودة مستحيلة والأمل بدأ يخبو والصحة تتدنى من يوم لآخر وأصبحت الحياة تضيق به وتيقن بأن معركته خاسرة.

 كل تلك الأحداث أثرت في صحته، فألمّ به المرض وأسلم الروح، فعمّ الحزن  والذهول نزلاء القصر وأفراد الحاشية والحرس، بعدها بدأت الاتصالات لنقل الجثمان، فوصلت طائرة من موران، كانت هي نفس الطائرة التي حملته إلى المانيا: “نقل الجثمان بسرعة، وسافر على نفس الطائرة نزلاء القصر وأفراد الحرس والحاشية.”

في خماسيته هذه، غطى عبد الرّحمن مُنيف مرحلة طويلة من أحداث الجزيرة العربية، ووضع تصوراً واضح المعالم بنى عليه روايته، وعرف كيف يبرز تلك الأحداث بأسلوب قلّ نظيره، بحيث جعل القارئ يغوص ويتأمل ويستوعب ذالك المجتمع البدوي، فاستخدم في سبيل ذلك اللغة البدوية الدارجة حينا، مطعمة بالأمثال والحكم والأشعار، فأنتج رائعته “مدن الملح” وجعل منها  أجزاء متواشجة، رائعة البناء والأسلوب. فسهولة ويسر تناول ووضوح الفكرة التي بدأ مُنيف روايته بها، جعلت القارئ يندمج اندماجاً كلياً ليتتبع الاحداث بشغف. التركيب الفني كان بارعًا وجميلاً ومعجزة من معجزات الخيال، بحيث يتغلغل المؤلف في طوايا الشخصية ليجعل من كل ذلك شيئاً فنياً مؤثراً، فكأن أشخاص الكتاب يتحركون بيننا  فعلاً، أحياء نسمع “سوالفهم” بين العامية والفصحى، نحفظ أمثالهم وحكمهم وأشعارهم.