رثاء الأبناء

1
448

لطالما جعلت فجيعة الموت والفقدان الإنسان ينهار، وقد لا يكفيه البكاء والنحيب والصراخ وشقّ القمصان، وعناق الأحياء من الأحبة لنسيان فجيعته، فيلجأ لإخراج حزنه على شكل كلام قد يكون شكوى أو دعاء، وقد يكون موالاً أو شعراً أو نصاً…فّالكتابة عن الراحلين رغم أنها تحرك السّكين في الجرح إلا أنها تحرر صاحبها، وتجعله متصالحا مع مصيبته. ولا يجد الكاتب إلا قلمه يشكو به مواجعه للورق. فكيف إذا كان الفقد فقد الولد. 

لا يوجد مصطلح يختصر حالة الفاقد لولده، فهو أكثر من يتيم وأكثر من أرمل، وقد عشته مع أصدقاء فقدوا ابناءهم، وتلّوعت معهم كوني دوما كنت أضع نفسي مكانهم. وقد قاسمت صديقي الدكتور جمال المقابلة الناقد والأستاذ الجامعي وجعه الكبير حين فقد ابنته الصغرى اللامعة المتألقة وقد قام مؤخرا بافتتاح “ركن خديجة جمال المقابلة للكتاب وفضاءاته” في مكتبة في مكتبة الجامعة الهاشمية برعاية رئيسها فواز العبد الحق الزبون. 

اقشعرّ جسدي أمام الفكرة، وأنا أتابع بعض التفاصيل خلال المناسبة، وتأثرت كثيرا وأنا أرى الأب المفجوع يحاول التماسك حتى لا ينهار وهو يلقي كلمته أمام الحضور. لا فارق زمني بين متابعتي لهذا الحدث، وبين الفيديو الذي أرسلته لي صديقتي الروائية فضيلة الفاروق وهي تتحدث عن كتاب “رسائل فدوى” لأب آخر مفجوع في ابنته وهو الكاتب أحمد الراشدي من عمان، طلبت الكتاب على وجه السرعة، وفكرة “رثاء الأبناء” تجتاحني اجتياحا، إنها فكرة مجلجلة لارتباطها بأعظم الأحزان على الإطلاق. 

لهذا فإنّ رثاء الأبناء نثراً وشعراً قديم قدم الموت نفسه، وفي التراث العربي عدة كتب كتبت لتعزية من فقد ولده مثل كتاب ابن ناصر الدين “برد الأكباد عند فقد الأولاد” وكتاب السيوطي “فضل الجَلَد عند فقد الولد”. ولعلّ أشهر من رثا ولدًا ابن الرومي الذي فقد ثلاثة من أبنائه، وأحيحة بن الجلاح، والحارث بن عبّاد، وزهير بن أبي سلمى، وجرير، وبشار بن برد، وآخرين كثر يصعب ذكرهم جميعهم. مع أن أكثرهم فاجعة إنّما هو أبو ذؤيب الهذلي الذي فقد أولاده الذين قيل إنهم أربعة، وقيل خمسة، كما قيل سبعة أصيبوا جميعهم بوباء الطاعون وماتوا في عام واحد.

رثى نزار قباني ابنه هو أيضا، وكتب الكثير في الرثاء، في والده وأخته وزوجته، ولكنّه ظلّ شاعر الشعر الرومانسي أو شاعر المرأة في نظر أغلب قرائه. وإلى يومنا هذا كثر يصدمون حين يعرفون أنه القائل “لو كان للموت ابنٌ لأدرك ما هو موت البنين” وهو بيت من مرثية طويلة في ولده توفيق.

كما رثت خنساء الشعر العربي المعاصر “عائشة التيمورية” ابنتها التي توفيت قبيل زفافها، ما أدخلها في مرحلة ذهول وصدمة جعلتها تجلس ابنتها على كرسي العرس بثياب العروس، وهي ميتة، وغنّت جرحها وحزنها بطريقتها على مدى سنوات طويلة، كتبت فيها الكثير من الرثاء الذي ربما لم يشف وجعها ولكنّه جعلها تعبُر تلك المرحلة إلى أخرى أكثر سكينة وهدوءً وتصالحا مع القرار الإلهي في استرجاع أمانته.

الشاعر المصري هشام الجخ أشهر مشاهير الشعر بالعامية، الذي حفظنا رثاءه في ابنته جويرية، والتي توفيت قبل بلوغها السنة من عمرها، فهو القائل “يا حتّة القلب اللي مات، وعد يا ست البنات، حافضل أحبك من سكات…” 

في الأدب العالمي نعرف قصة فيكتور هوغو الذي كان في إسبانيا مع عشيقته، حين سقط عليه خبر وفاة ابنته “ليوبولدين” متأخرا، والتي ماتت غرقا وهي حامل مع زوجها. وقد رثاها بقصائد عديدة.

كما تحضرني إيزابيل ألليندي وتجربتها المأساوية مع انطفاء ابنتها شيئا فشيئا بعد إصابتها بفيروس نادر أدخلها في غيبوبة لمدة سنتين قبل أن تسلم الروح، وكانت أمها قد كتبت لها رسالة طويلة دوّنت فيها تفاصيل حياة أسلافها، ومن ثم حياتها هي، ولكن باولا ماتت في سن الثامنة والعشرين ولم يتسنّ لها قراءة تلك الرسالة التي تحوّلت لكتاب حمل اسم ابنتها كعنوان “باولا” وصدر العام 1994، وقد ترجم للغة العربية من بين اللغات التي ترجم إليها. 

أمّا الكاتب والحكواتي العُماني أحمد الرّاشدي الذي صار يبحث عن أطفال الجنة ليتعرّف إليهم فقد كتب سبعون رسالة كتبها على امتداد ست سنوات من 2014 إلى 2020، بعضها قصير وبعضها طويل نسبيا، خاطب فيها فلذة كبده التي توفيت في حادث صعق كهربائي على سطح بيت جدّها. وهو دون قصد جعلنا نتذكّر عشرات الأطفال بل مئات من الذين نفقدهم يوميا في حوادث بائسة، من إيلان السوري الذي مات مرميا على الشاطئ، إلى محمد الدرة في فلسطين، إلى ريان المغربي الذي مات في البئر، وإلى كل الذين ماتوا في عتمات العالم دون أن يحرّك موتهم وجداننا. 

يروي لنا الكاتب في 144 صفحة من القطع الوسط، حكاية فدوى منذ ولادتها واختياره لاسمها تيمنا بالشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، إلى حين بلغه خبر موتها وهو في رحلة إلى ماليزيا، وكان قبل تلقيه ذلك الخبر المشؤوم زار سوقا شعبيا واقتنى لها قبعة على شكل رأس أسد، وأخذ صورة لنفسه بالقبعة وأرسلها لزوجته بالواتس آب مع رسالة يقول فيها “هدية لحبيبتي فدوى” ولعلّ الصدف الحزينة شاءت أن تكون تلك اللحظة لحظة مفارقتها الحياة، تاركة خلفها عائلة مفجوعة وأب التهمته نيران القلق والخوف والحزن والأمل معا وهو في طريق عودته من ماليزيا إلى عمان. إذ ظلّ متعلّقا بأمل أن يتم انقاذها، فقد كانا متعلقين ببعضهما كثيرا، ويذكر في رسائله أنها أول مرة طلبت منه أنْ لا يسافر. 

وكما كل المصدومين في فقد أحبتهم، يذكر الكاتب جميع من وقفوا جنبه في مصابه ومن كان لهم أثر في تخفيف ما عاشه من حزن وانكسار، يذكرهم بأسمائهم فبعضهم كتب قصة أطفال عنها وآخر أهدى إليها قصيدة، ويحكي كيف تجنب أي ذكر لها في السنتين الأوليين فلم يذكر اسمها مطلقا أمام أمها ولم يفتح ألبوم صورها، ولكن كان يفرح حين يناديه بعض أصدقائه أبا فدوى. يحكي تفاصيل كثيرة عن فدوى التي لم تعش سوى ست سنوات، عن إصابتها عند ولادتها بورم حميد، وعن تعاونه بعد وفاتها مع طبيبة طلبت ملفها، ثم عن قطها الذي أسماه “شاي” لولع أحمد الراشدي بشرب الشاي، ولأن القط خجول وكلمة “شاي” لها هذا المعنى في اللغة الإنجليزية، لكن المثير للدهشة أن القط بعد فترة من وفاة فدوى اختفى. هي التفاصيل التي تصنع المشهد الكلي لكتاب الرّاشدي.

في فصل “الرسائل” كثير من تفاصيل حياتهما معا أو حياته بعدها فقد بقي يكتب لها الرسائل لأنها حية في قلبه. وفيها تفاصيل موجعة مثل قوله “صرت أنتحب تحت دش الماء حتى لا أوجع قلب أمك وعينيها” أو “ألبوم صورك الذي امتلأ به هاتفي وكنت أذخره لك حين تدخلين الجامعة صار ألبوم شجن وأنس لي”.

في الفصل الأخير وعنوانه “ما بعد الرسائل” يذكر ما يسميه “وجدانيات آنسته في عزلة حزنه على فقد فدوى” فمن ذلك سورة يوسف بما تحمله من معاني فقد النبي يعقوب لابنه يوسف عليهما السلام، وقصيدة الجواهري “في ذمة الله ما ألقى وما أجد” وقصيدة “فاطمة قنديل” للشاعر عبد الرحمن الأبنودي،  ومعزوفة “رحيل القمر” لنصير شمة، أغنية “خودا حافظ” للمغنية الإيرانية حُميرا، قصة الأطفال “فدوى تحلم” للكاتب مهنّد العاقوص ورسومها للفنانة ضحى الخطي،  وغيرها من نصوص وقصائد وأغاني، وتفاصيل جد مؤثرة، لا يمكن أن نجدها سوى في هذا النوع من الأدب الوجداني المنبثق من جرح عميق.

كتاب يعيدنا إلى أدب الرسائل، الطبعة الأولى منه صدرت في 2021 عن دار نثر – عُمان، وهو مقسم إلى تقديم وفصول ثلاثة. وتقديم وجداني كتبه الصحافي والكاتب العماني سليمان المعمري. أرسلته لي صديقتي على عجل، وكتبت لي إهداءً عليه تقاطع مع إهداء الكاتب “هل تصدقين بعض الموتى لا يرحلون ومنهم فدوى، أعتقد أن الأطفال لا يموتون بل يتحوّلون لكائنات لا مرئية تحمينا من هشاشتنا”.

أحمد الرّاشدي حكواتي وناشط في فعاليات القراءة للأطفال، مشرف ومؤسس مبادرة “القرية القارئة” لتشجيع الأطفال على القراءة. معد ومقدم برامج إذاعية مع كتّاب أدب الطفل، عضو في فرقة المسرح الشعبي. أب من النماذج القليلة التي يحلم بها الأطفال في عالمنا العربي. وقد يعتبر البعض كتابه بسيطا، وهو يقرأ تلك الرسائل.

“فدوى… فدوى: المكتبة التي وضعتِ أول كتاب فيها لأطفال القرية صارت مكتبة كبيرة. مكتبة “القرية القارئة” حصلت على المركز الأول في مسابقة المبادرات القرائية المجتمعية في معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته الرابعة والعشرين”. (ص 124).

يستحيل لمن عاش تجربة الفقد ولوعتها ألا يعانق هذا الكتاب بعد قراءته، وينهض ليمضي قدما نحو أفق أكثر جمالا. 

1 تعليق

  1. ما اجمل المقال الذي نقل معاني عميقة في الفقد والحزن والالم وفي طريقة تجاوزه ولاني اعرف الكاتب نسبيا والكتاب الذي لم استطع ان اكمل قراءته لما اثاره من مراجع وذكريات وتخيل .. دمتي بخير وسعادة

Comments are closed.