زوربا الذي لا يشيخ

0
128

من الروايات الخالدة والروائع الكبرى في الأدب الحديث والتي لا تود أن تفلت من بين يديك ويتسرب اندهاشك  وأنت تقرأ أثرا لا ينسى ،رواية نيكوس كازانتراكس، تلك الرواية  الرائعة هي زوربا  التي ظلت في وجدان القراء، تقرؤها مرة لتعود اليها مرات أخرى  بنهم وشوق لا يكل، وإنما بحماس متجدد وكأنما تهدف من ذلك أن تجدد شبابك، وتود ان تكون زوربا نفسه، بتلك الروح خفيفة الظل والعنفوان والحياة البسيطة وبالمرح فائق الجمالية  لتعب وتنهل من نعم  الحياة وملذات الروح والجسد معا، إنه زوربا العظيم المفعم بالحيوية والبساطة يعيش الحياة ويهيم بها بكل امتلائها وامتلاكها، فالحب لكل ما هو مفرح للروح والجسد مسكون فيه يعيشه بكل جوانح حواسه، بالمرأة وبالطبيعة، بالبحر يفرح بمغامراته بحيوية وثبات وسرور وفرح وبهجة، لينعم بحياة هانئة رغم ضيق العيش وكفاف المعيشة وقلة ذات اليد .ظللت مسكونا بهذه الرواية الرائعة أتأمل جمال كلماتها والعبر الممزوجة بطين الواقع وانعكاس كل ذلك على سلوك الانسان لتحسين ذوقه وترميم ذاكرته وفتح شهيته للإبداع وصقل أخلاقه وصون ذائقته للأشياء المهمة في الحياة حتى لا تتلف روحه وتغيب حواسه عن المتعة والجمال لكل ما هو جميل وبهي وحتى لا تصبح العقول عاجزة عن التفكير كالجسد العاجز عن حمل صاحبه.

قلب يطفح بالسعادة وروح عذبة، عينان حزينتان، متألقتان، خدان أجوفان وفك قوي، ووجنتان ناتئتان، وشعر رمادي مجعد، وجهه مليئًا بالغضون تعبًا، قلب حي، أذنان كبيرتان ممدودتان، فم واسع نهم، روح خام كبيرة، هو ذا الكسيس زوربا، كما صوّره الكاتب، يعزف السانتوري الذي تعلمه على يد شخص تركي يدعى رتسب أفندي وهو أستاذ ماهر في عزف هذه الآلة الموسيقية.

هذا العامل البسيط يعرف معنى الحياة وكيفية عجن الاشياء ببساطته دونما فذلكة، فالفن والحب والجمال والطهارة والهوى يؤنسنها بتوضيحات سهلة وبأسلوب مفهوم وبسيط. يقول عنه كازانتركس (لا شك في إن البرق، والمراكب البخارية، وسكك الحديد، والأخلاق السائدة، والوطن، والدين، كانت تبدو في عقله، كبنادق عتيقة صدئة. لقد كانت روحه تتقدم بأسرع مما يتقدم العالم.) 

 المرح يتملكه دوما وأبدًا وكأنما يود أن يتملك العالم ويعانقه، الجنس الانثوي كما اعتاد أن يسمى المرأة يغويه ويشعله اشتعالا، فوراء كل امرأة كما يقول كازانتراكس: ينتصب وجه افروديت، صارماً، مليئاً بالأسرار. فزوربا يرى يوميا كل الأشياء للمرة الأولى ويتساءل بذهول عن كل شيء المرأة، شجرة مزهرة، رجل، قدح من الماء البارد، فهو كالثعبان الذي يعبده متوحشي أفريقيا، فجميع المشاكل المعقدة التي تبدو لنا بلا حل، يحسمها هو، بضربة واحدة من السيف، مثل مواطنه إسكندر الكبير.

يرقص بوحشية ويغرق في الرقص كصبي يافع وهو الذي تجاوز من العمر الخامسة والستين، فالفرح يلازمه ويتوحد به ليجسد به متع الحياة ويرمي بهمومه بعيدا لتبقى روحه معلقه تجاور السماء باعثا الرضا والمحبة له ولغيره، وكأنما يود لو أن يطير، فهو قالع حجارة، عامل مناجم، بائع متجول، فخّار، جندي غير نظامي، عازف سانتوري، بائع بزر اليقطين، حدّاد، كل تلك هي المهن التي مارسها زوربا وأتقنها، وهي من صقلته وعلّمته كيف يعيش بأسلوبه الخاص، فهو إذن قد عبّ ونهل من مدرسة الحياة وتعلم منها الكثير الكثير.

 فالراوي يقول عنه ملخصًا أسلوب حياة زوربا: “لو عاش في عصور أخرى بدائية وخلاقة، لكان رئيس قبيلة، والمشي في المقدمة، يشق الدروب بفأسه. أو لكان شاعرًا مشهورًا من شعراء التروبادور، يزور القصور، ولتعلق كل العالم بشفتيه الغليظتين، السادة والخدم والسيدات النبيلات.. اما في عصرنا الجاحد، فهو يجول، جائعا حول البساتين المسورة، كذئب، أو يسقط بالأحرى، إلى حد يصبح معه مهرجًا لكاتب رديء.

 فهذا الرجل لا يستسلم للصعاب ولا للشيخوخة، ويقول عن نفسه بأنه كلما تقدّم بي العمر ازددت تمردا وأريد أن أغزو العالم، وكلما كبرت ازددت توحشًا ليكفوا عن القول لي إن الشيخوخة تشذب الانسان وتهدئ حرارته.”

 لم يفوت زوربا فرصة مناقشة جدلية الحياة والموت بأسلوبه الواقعي جدًا من خلال معايشته الطويلة وخبرته المستمدة من واقع تجربته وعمله في مختلف المجالات ليلحق ذلك بطريقة تفكيره البسيط المنبسط على فراش حقيقة وجود الإنسان وطبعه وطبيعته. فالتصوير الجميل لكل كلمة أو حركة يقوم بها زوربا كانت محل تقدير من الراوي وذلك لسبب من أن كازانتراكس كان يتأسى الطريقة والأسلوب الذي تجلى به زوربا في طريقة حياته بعيدًا عن الكتب والخطابات الجوفاء، فما يوده هو التمثل واقعيًا بتجربة زوربا في الحياة التي استغرقت كل ما قرأه كازانتراكس من كتب أدبية وفكرية وفلسفية مجردة، فزوربا أصبح نبراسا ودّ أن يتمثله ويتعقب تجربته وخطاه الواقعية بعيدًا عما قرأه وتمثله من نظريات. وقد صهرت الحياة زوربا في مصهرها وبعثته نجمًا  مضيئًا في سماء الواقع ليبث ضوءً لكل من يود أن يتعرف على الحياة الواقعية ويتلمس ضياؤه من خلال هذه الرؤية، ويعيش الأمل ويتلمس المستقبل المشرق ويحلم دوما بالجديد، بالعمل، والنضال من أجل ذلك، فالعمل ضوء، والغناء والفرح والرقص ضوء، والمرأة ضوء والبحر ضوء، هي تلك فلسفة زوربا ورؤيته للحياة، التي لها رتمها الخاص بعيدًا عن الكتب والنظريات على أهميتها، ولكن تبقى التجربة العملية الإنسانية حاضرة دوما، فهي أم المعرفة كما يقولون، وهذا ما فعله زوربا بحسه الإنساني البسيط ولكن اللاقط لكل ما هو معبر ومفيد. مَن منا لا يودّ أن يكون زوربا بهذه المواصفات؟

  العنفوان، الأريحية، الإيثار، الإقدام، الشجاعة، الاستقامة، الاستغراق في العمل، المسؤولية التي لا تضاهى، إنكار الذات، الشجاعة، الفرح، النباهة، الذكاء الفطري، البساطة، النظرة البعيدة للأشياء، التفكير الصلب والواقي، كل تلك تحلى بها، وتعلمها من تنور الحياة لا من الكتب، وعلى هذا الأساس كان كازانتراكس يحسده عليها رغم ثقافته وفهمه وقراءته، وكما يقول الكاتب: “وعند المساء يحدثني، وهو جالس أمامي، سندباد بحري رائع، يتحدث ويتسع العالم كلما تحدث. وأحيانًا عندما لا تسد الكلمة حاجته، ينتصب قافزًا ويرقص. وعندما لا يكفيه الرقص نفسه، يضع السانتوري على ركبتيه ويبدأ بالعزف.

 لقد تنكب زوربا الدروب الوعرة في الحياة وعاش ولمس وجرب جميعها فتدرب على كيفية تخطيها وعمل بكد وجهد للتوصل إلى تلك الفلسفة البسيطة في العيش بصحة للجسد والروح، فاختياراته كانت صائبة على الرغم من تلك الصعاب، حيث كانت لديه رغبة في أن يرى ويلمس أكثر ما يمكن، الأرض، البحر، فزوربا في داخلي كما يقول لا يريد أن يشيخ، وهو لم يشخ، ولن يشيخ أبدًا. فعندما يعمل لا يشغل ذهنه بأي شيء آخر سوى عمله، والعمل بالنسبة له هو الطمأنينة الوحيدة، فيذكر كازانتراكس بأن زوربا يظلّ متحداً بالأرض والمعول والفحم. لقد انقلب هو والمطرقة والمسامير إلى جسد واحد، ليناضل ضد الخشب.

وفي موضع آخر يضيف: “كنت أنظر الى زوربا على ضوء القمر الشاحب، وأعجب بتلك الكبرياء وبتلك البساطة اللتين يتلاءم بهما مع العالم، وبجسده وروحه كيف يشكلان كلا واحدا منسجما، وبكل الأشياء، النساء، والخبز، والماء، واللحم، والنوم، كيف تتحد بفرح مع جسده وتتحول الى زوربا. إنني لم أر في حياتي مثل هذا التفاهم بين الانسان والكون.”

 تعجب بعذوبة روحه وسهولة معشره ومقدرته العملية في حل مشاكله مع الحياة ليقول عنه كازانتراكس: إن كل المشاكل التي كنت أحاول أن أحلها، عقدة عقدة، في عزلتي وأنا مسمر على مقعدي، قد حلها هذا الرجل، وسط الجبال، في الهواء الطلق، بسيفه. هو ذا زوربا، إذن يحيل الفكرة إلى واقع، يطيل النظر ويستقر به المقام ويبدأ في تنفيذ مشاريعه، فيقول عنه الكاتب بأنه انسان حارة دماؤه، متينة عظامه، يترك دموعا كبيرة حقيقية تنساب حين يتألم، ولا يضيع فرحه بإمراره في غربال الميتافيزيق الدقيق، حين يكون سعيداً.

 رواية جميلة كلما قرأتها يزيد قلبك اتساعا، تسلك من خلالها أقصر الطرق لمعرفة الحياة بعيدًا عن صخب النظريات وفلسفة المثقفين وايديولوجيات المفكرين، صاغها كازانتراكس بقلبه النابض وبفكره المنتمي للبسطاء من بني البشر.