في الحياة العصرية الحديثة، تتأكد المكانة والأهميّة للفرد، وللدور المهمّ الذي يقوم به في عملية الإبداع والتطوير الإنساني. وعندما نبحث عن التغييرات النوعية في مجالات الحياة المختلفة، نجد أنَّ الذين ساهموا بها هم أفراد، ومن خلال الإخلاص والإلهام، لتقديم الفائدة والخير لمجتمعاتهم ودولهم.
إنَّ الدور الاستثنائي الذي يقوم به الفرد، لا يأتي من الفراغ، بل من الأسباب والبيئات، التي تكون مليئةً بعوامل التحفيز والتفاؤل والإستنهاض، تلك التي تساهم بوجود الإبداع والنبوغ لديه، ولا ننسى أيضاً الحرية ومناخها، التي تجعل الفكر منطلقاً وجريئاً.
أعتقد إننا عندما نعالج موضوعاً فكرياً مثل موضوع الحريات والتقدُّم، تتوضّح أمامنا القيود والتقاليد، التي يحميها الجمود والتخلُّف، وتراجع الوعي والتفكير في المجتمعات. وعند الحديث عن المجتمع، نبدأ بالتأكيد بالمحيط الأقرب لنا، أي مجتمعنا البحريني الذي لا زال حديثاً في عملية الإرتقاء والتقدُّم. لذالك أرى أنَّ المسؤولية علينا كبيرةٌ جداً، في تأصيل هذه المفاهيم الحضارية، المتمثلة في التقدُّم والحرية.
إنَّ مفهوم الإرتقاء عن التقاليد من أهمّ المفاهيم في هذه الحياة، فنحن لا نتصوّر الحياة من دونه، وغيابه أو تراجعه، هو غيابٌ وتراجعٌ إلى الحياة نفسها. ونحن عندما نرى الجمود المتزايد في حياتنا، نتسائل: أين طبيعة الحياة من حياتنا ؟ كيف يتشابه الأمس واليوم والغد ؟ هل تعطل التفكير ورضينا بالتراجع والخضوع ؟ نعم، هي أسئلة صعبة نوعاً ما، ولكن اجابتها تكمن في داخلنا، عن الإنسان والوجود والمسؤولية، عن الفرد ومكانته الغائبة، التي تعكس مكانة المجتمع، بدوره ومسؤوليته.
في المجتمعات العربية، وتحت تأثير التخدير الفكري وتراجع الحريات، تزداد ظاهرة التقديس للعادات والتقاليد، والتي بدورها تنافي مفهوم الإرتقاء، وتؤدي بنا نحو التراجع والانهزام. وقد كتب الكتاب الأوائل، النهضويين منهم، عن هذه الظاهرة، قبل قرن من الزمان تقريباً، وما زالت هذه الظاهرة موجودة في الثقافة العربية ؟ وهذا يوصلنا إلى التعليل والفهم الصحيح لها، وهي أنها متجذرة، وحلولها الصحيحة يجب أنْ تكون جذرية أيضاً.
أعتقد أنَّ فكرة الإرتقاء، من الأفكار الاستثنائية والغائبة عن حياتنا، فهي تناقش الموروث الثقافي الخاطئ في العقل الاجتماعي والوعي العام، الذي يستمدُّ معتقداته من البيئة والجماعة. وكلما كانت هذه البيئة تتراجع وتتخلَّف عن مكانة الفرد وحريته الشخصية، ازداد الجمود والتقليد فيها، وهو بالطبع يعكس أحوال المجتمع والناس، وصولاً إلى الدولة والمؤسسات، ذالك الذي لا يليق بمبدأ التقدُّم.
إنَّ العصر الذي نعيش فيه اليوم مليئٌ بالتحدّيات، الحقيقية والصعبة، ولكنه مليئٌ أيضاً بالآمال الكبيرة. وتزداد الفرص في التقدُّم والإنجاز عبر ثقافة الوعي والإدراك، لمسؤولية الفرد والإنسان في هذه الحياة. ومنطق التقاليد السائدة، لا يؤدي إلى النتائج المطلوبة والضرورية أبداً، فهو يطالبنا بالخضوع والتسليم وإلغاء الدور الحضاري للفرد في تحسين هذه الحياة وتقديرها. فهذا المفهوم الفلسفي، الذي يتبنَّاه الإنسان المتمدّن والعصري، أراه واحداً من المعاني الوجودية للإنسان في الحياة.
في الختام، وتأكيداً على التأثير والدلالة الثقافية بين المجتمعات العربية، أتوقف تأملاً عند تسمية العالم العربيّ، التي أراها مناسبةً لموضوعنا هذا، والذي يعاني هو الآخر من محنة التقاليد والتراجع، فتكون التسمية حقيقية، في سياق الحضارة والتقدُّم العالمي، تلك التي توضّح المفارقة التي وصل لها هذا العالم العربيّ. فهو حقاً عالمٌ لوحده، مختلفٌ عن بقية الأمم، رافضاً التلاقح مع أسباب الخير والهناء، لسعادة الإنسان واحترام الحياة في التطوّر والإرتقاء.
إنَّ مبدأ الإرتقاء عن التقاليد من المبادئ المهمة في حياتنا، فهو خير مثال على سيرة الإنسان في هذه الأرض. هذه السيرة التي يفهمها جميع البشر في كل مكان. ولا ننسى أيضاً، أنَّ هذا المبدأ، هو البيئة الحقيقية لمشروع النهضة المنشود من قبل البلدان والشعوب.
إنَّ هذه الأفكار والأطروحات، نعتقد بأهميتها وجدارتها للحياة، والثابت الوحيد والدائم منها هو فكرة التغيير، هذه الفكرة النابضة بالأمل والعمل، التي يعمل من أجلها الإنسان في هذا العالم، ذالك الذي يشعر بهذه المعاني الكبيرة للوجود والحياة، تعزيزاً للطموح الإنساني الواضح، الذي يتمثل في الخير العام.