لعلنا دائما كل ما طرح سؤال الكتابة، يتخلق في ذهننا بالتوازي، سؤال الوعي، أن تكتب يعني أنك تعي، يعني أنك قد بدأت بمحاولتين، إما أن تحاول فهم العالم المحيط عن طريق تحليله أو إنكار هذا العالم بخلق عالم مواز هو عالم المخيلة، الذي منه صنع الوعي الإنساني إدراكه الأول للعالم الذي يحيط به، وعندما أعود لذاكرتي الخاصة الأولى، وتشكل وعيي من خلالها، أجدها تتخذ من الحكاية مساراً لمحاولة صناعة حياة موازية، بدأ الأمر هكذا كمغامرة شقية، تشبه ذلك النوع من المغامرات الطفولية التي نحاول من خلالها سبر العالم المحيط بدون خوف، وأذكر أن الحكاية الأولى التي تخلقت في ذهني كجزء مواز لواقع العالم، كان مشهد النافورة التي تنام وتستيقظ مثلما نفعل نحن البشر، كنت أتسلل من المنزل وأنا في عمر السابعة، معي لعبة وحيدة هي المفضلة، وفضول متقد، لا يعبأ بفكرة الشوارع الغريبة والناس الأغرب، لا يفهم معنى نهضة متسارعة ولا شوارع مسفلته متكاثرة في أوج تسعينيات الخليج الميلادية، لا يدرك ربكة إنسان المكان ولا احتمالاته المتوجسة من الجديد المتطاول، ولا يستطيع بالطبع أن يفسر هلع أمي ورعب والدي متى ما تم اكتشاف غيابي عن المنزل، كان جل ما يرغب به ذلك الفضول أن يشبع الحكاية الموازية في المخيلة، بتقصي أوقات استيقاظ ونوم النافورة، النافورة التي بقيت هناك في جزئها الأثير من الذاكرة إلى حين استدعيت كمفتتح لروايتي الأولى بعد قرابة العشرين سنة:
“ الشارقة 1995
- يمكن راقدة
- أو يمكن ماتت
كانا يلعبان بالكلمة ككرة، يقذفانها بينهما، “موت”، يحاولان سكبها على الأماكن والأشياء والأشخاص، يرغبان بالتأقلم مع هذا الفعل الطارئ على فهمهما، الموت يعني أن الجسد يغيب وتبقى الرائحة، الرائحة التي لا تزال مرتبطة بتلك الغرفة الصغيرة، غرفة الجدة.
أيقظهما ماءٌ تدفق فجأة، راحت هي تتأمل انفلات الماء المباغت فيما راح هو يقترب من “النافورة” بحذر العاشق الموشك على لمس وجه محبوبته للمرة الأولى، لمس الماء، وعلى أثر اللمسة هربت قطرة وسقطت على وجهها، جفلت مرة أخرى، أو جفلا معاً، ضحكا، “النافورة” حية، ليست ميتة.. تفكر، أو يفكر، يفكران معاً، تنسل هي من الفكرة المشتركة والضحكة وتعود إلى تلك الليلة ومركبة والدها البيضاء تتوقف أمام المنزل، تذكر بوضوح نشيج أمها، وهي تغادر المركبة، شكل الحزن على وجه والدها، شهقة المربية التي كانت تمسك بيدها الصغيرة عند الباب والعبارة الركيكة التي راحت تتضاعف في هواء المنزل والحي والعالم.
- “يدّو(*) موت”.
هل هذا يعني أن جدتها قد جفت؟!” ((1
ومن هنا أظن أن أول وعي طفولي بدأت منه الحكاية، بدأ من قلب المدينة اللاهثة، من تلك الأشياء الجديدة النابتة، التي لم يسبق لتلك المدينة الساحلية أن اختبرتها، ولأن المخيلة في أصلها كيانٌ جمعي كما يعرفها “نوربرت إلياس” في كتابه مجتمع الأفراد، فإن مخيلتي اتسقت مع ما زرعه موروث المخيلة الإنسانية المتوارث في أن يأنسن ما يربكه، ثم ما يلبث أن يمنحه الخوارق رافعا إياه في مقام الآلهة، أو يدنيه من الطين خالقا، الهشاشة البشرية التي يتسق معها أكثر، ومن هناك ولدت مخيلتي وذاكرتي الأولى معاً النافورة التي تستيقظ وتنام وجدتي التي تموت. بالمناسبة، لا تزال تلك النافورة قائمة حتى اليوم، خالدة، وحيدة، تستيقظ وتنام للأبد، في مدينة عالجت حداثتها الظاهرية المتصاعدة، بالاستقرار على وجه لا يتغير باضطراد كمدن قريبه أخرى.
كبرت تلك المخيلة لتجد مكان لها بين الكتب ، كتب السرد تحديداً ، وحيث الحكايات التي تحاول من خلالها تلك الفتاة التي راحت تكف مغامراتها عن الخارج موجهةً إياها إلى عوالم تلك الحكايات التي اكتشفتها في الكتب، الكتب التي كانت تقدم المدن في قلب المدينة الواحدة فتجعلها لكأنها عالم واحد والشخوص المتنوعة التي ساعدتها لتفهم تنوع الوجوه الغريبة في مدينتها لتكسر من خلالها وحشة الغرابة بفضول مقارنة الأنماط بين ما تقرأ وما ترى، ثم كان جاء الخروج عن التفاعل مع الأنماط قراءة وملاحظة إلى الانتقال إلى فكرة الكتابة، التي بدأت في أولها، تماما كخطوات مخيلة الطفولة الأولى، على هيئة قصص قصيرة، تحاول أن تتأمل في الإنسان من خلال وعي وخيلة فتاة في التاسعة عشرة من عمرها، وأذكر أنني في آنها، وأنا أصنع شخوصي الخاصة الأولى وأمنحها محيطها للتحرك، لم أكن أدرك ماهية الجنس الكتابي الذي أخترته، ولم أكن أعي كما اليوم أنها الفكرة التي تأتي أولا، ثم تتخلق لتخرج من نطاقها الأثيري إلى جسد القصة أو الرواية أو القصيدة أو.. أو.. أو..، كانت شخوصي في آنها مرتبكة، جميعها إما لعطبٍ جسدي أو نفسي، لعلها ربكتي الشخصية أو ربكة المدينة المحيطة لا أعلم ، لكنها أيضا وبشكل ضمني كانت تقاطع اختلاط وعيي بوعي القراءات الإماراتية السردية الأولى التي راحت تطرح في ربكة المكان والإنسان، وتحولاته وعما إذا كان ما يحدث في الخارج يعكس ما يحدث في الداخل فعلياً وأعني هنا ما يحدث في خارج الإنسان الخليجي الإماراتي وما يحدث في داخله، لا زلت أذكر ذلك السؤال من خلال قصة “فيروز” للقاصة الإماراتية مريم جمعة فرج ، التي أقتطع دائما منها مشهداً قرابة الخاتمة
“كنت تركض! كنت توقف المارة وتتكلم عن تربتك.
يسألونك فاغري الأفواه تجاه معجزة الخروج من الجنون:
إذا خرجت من الماء، قلت لكم، قلت. وكلما توغلت في الوجوه، كلما أيقنت أنها رغم تغير الماء وتلاحق أزمنتها عبر فترات متباعدة، فإنها لم تتغير كليا، هي ذات الوجوه وهذا هو رئيسك يترك السيارة الناصعة البياض كقطعة ثلجية أخرى، مختالا يهبط ثم يتجه بوجهه ناحية المارة وعمال التنظيف، عندها ترتج فرائصكم ويرتفع عبر السلم الكهربائي البارد، ثم لا صوت يتبعه وهو يتجه ناحية البوابة الكبيرة، يدخلها كالزمن الكبير، ثم يتثلج متجهما. يقف طابور أمامك متساويا، مترصدا سقوط الثلج من يدك، عجوزٌ وحدها تخرج عرجاء ملتوية في عباءة عتيقة ذات رائحة وتشتمك
إيه “خبل”
فتصرخ: أسكتوا هذه المجنونة” (2)
لكن تلك الربكات التي تقاطعت معها، لم تستطع أن تخلق شخوصاً مرتبطة بالمكان بشكل كامل كما فعلت النصوص التي قرأتها لفرج ومجايليها، بل كانت قد تفسخت عن المكان نحو هوية لا ترتبط بشيء سوى تلك الربكة أو ذلك العطب، وهو ما عكسه عنوان مجموعتي القصصية الأولى” زهايمر” الصادرة عن مشروع قلم التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة في 2010، كنت في آنها في الثانية والعشرين من عمري، أعرف كيف أخلق شخصاً في قصة قصيرة، لكن هل كان ذلك كاف، هل كانت تلك التجارب حقيقية وأدرك من خلالها ماهية أن أكون كاتبة أو معنى الكتابة، إذ أنني بعد تخرجي من الثانوية بقسمها العلمي تخصصت في الهندسة التي توجهت إليها لرغبة عائلية في البداية تطورت لتخلق رابطا خاصاً مع الاستنتاجات المباشرة والأرقام الواضحة، مع محافظتي على نمط القراءة ومحاولات الكتابة، وحيث كنت بالتوازي مع دخولي معامل التجريب والدراسة لاختصاص الهندسة الإلكترونية، أصنع تلك القصص لتكون مختبري الذهني الخاص، أجرب من خلالها، ما اعتمل بداخلي من أسئلة بسيطة واحتمالات، أجرب فقط.. ويمتعني ذلك، ويشعرني على بساطة تفكيري في آنها، بنشوة القدرة على خلق مصائر صغيرة، قصيرة ومبتورة.
لكن الأمر داخل معامل التجريب ومختبراته، يختلف تماما عندما يخرج الأمر للعالم، وكانت مواجهة “زهايمر” المجموعة القصصية للعالم، بمثابة صدمتي الأولى
(2) فيروز – مريم جمعة فرج –86 19
في اختبار فكرة أن يكون هناك معنى ضمني أشمل وأكبر لفكرة الكتابة، المعنى، أنت لا تخلق الحكاية فقط، لا تصنع شخصاً ورقياً، لا تمارس مغامرة سردية ، أنت تصنع معناك الخاص أيضا، الذي يجب أن يتقاطع بشكل ما مع نواة المعنى في الكون، تصور شاسع وبعيد عن الفهم العميق لإدراك فتاة العشرينات الأولى، ومن هنا اتجهت القراءة للتنوع ، لقد أصبحت مشروعا موازيا للكتابة، لم تعد قراء الحكاية هي المتعة فقط ، بل كل ما يحيط بالنتاج الفكري البشري من فلسفة وعلم نفس واجتماع واقتصاد وسياسة، لكي تصنع معنى الحكاية ، لكي يصبح للمصائر في السرد لحم ودم ، عليك أن تسبر الكون من خلال مشروع القراءة، فبدونها لا كمال ولا اكتمال إنساني بالدرجة الأولى قبل أن يكون إبداعيا، ثم تأتي الحياة على الأرض، حياة التجربة والاكتشاف خارج الكتب باعتبارها مضماراً لاختبار وهضم المقروء، وإعادة فهمه، توازياً مرة أخرى مع الواقع المجرد في مختبرات الهندسة.
أثناء ذلك صدرت الترجمة الألمانية لزهايمر، ثم “ساعي السعادة” و”خصلة بيضاء بشكل ضمني ” كمجموعات قصصية وبينهما “آيباد الحياة على طريقة زوربا” على هيئة رسائل سردية متصلة منفصلة في عالم الرقمنة الذي كان آخذاً باجتياح كل شيء حولنا نالت بعض النتاجات الملاحظة ونال بعضها الجوائز، وفي كل النتاجات كان الأبطال بعيدون نسبياً عن الاتصال بهوية راسخة، كنت العالم شديد الوضوح والتشابه، يعزلني عن محيطي القريب إلى المكان البعيد، لكن كيف لك أن تجيب أسئلة المكان البعيد وإنسانه العالمي، إذا لم تفهم أولا ماهية أسئلة المكان القريب؟ وجوهر الإنسان فيه، إنسان الحكاية والأرض، وتشعباته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في بعد من الأبعاد، كل ذلك أفضى بالمحصلة، إلى “ميرة” و”مسلم” و”مطر” في الشارقة الممتدة منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى حداثتنا المربكة هذه، محاولة أو تجربة، لطرح السؤال / الحكاية، من خلال تجربة سردية طويلة، هي الرواية كجنس أدبي “لعلها مزحة”، ولا أعلم إن كنت قد نجحت في محاولة الرصد السردي تلك مع الحفاظ على المتعة والتقنية الإبداعية التي هي أيضا في بعد آخر جوهر المغامرة السردية.
الأمر المؤكد أنني وأثناء اشتغالي على “لعلها مزحة”، رحت أحاول أن أتأمل في فكرة ملحة وهي إلى أي مدى نشبه اليوم ما نكتبه إلى أي مدى استطعنا أن نذهب في تجاربنا السردية في تجريبها وجنونها وتقدمها مع ما يتوازى مع الحداثة المفرطة المحيطة بنا، وهل يجب أن يكون انعكاسها أو يبقى بالأحرى مرتبطاً بتعامل أبطال الحكايات مع منتجات المدن الحديثة الخارجية من هواتف ذكية وسيارات وتقنيات مبهرة بعيداً عن بناء سردي جديد وتساؤلات حارقة وملحة عن إنساننا اليوم؟ أو بالنحو باتجاه خصوصية أكثر عن المرأة الخليجية اليوم وهل تتساوى مثلا شعارات التمكين مع هموم المرأة اليومية التي تعيش حكايتها ضمن حكايات كونية كثيرة أخرى؟ خصوصا مع الطفرة التي تشهدها الساحات الثقافية على مستوى الخليج في تفوق لعدد الكاتبات الإناث على الذكور، في الحقيقة أظن أنني رصدت بترا -من وجهة نظري- بين المكان ومنتجه الفكري والإبداعي على مستوى المعنى، وعندما نتحدث عن المعنى هنا، فإننا لا نتحدث عن أدلجة المنتج السردي أو محاولة تحويره عن شكله الأساسي المبني على التجريب الإبداعي الحر في نواته أو تقديم رسائل مباشرة وفجة أو أخرى وعظية، ولكننا نتحدث عن نوعية الأسئلة المطروحة ومدى جرأتها وقوتها وتعبيرها عن كل ما يشهده الخليجي من تحولات كبرى في الخارج على كافة الأصعدة، تجاوزنا صدمة الطفرات النفطية، ثم ماذا بعد؟ وهل تجاوزناها فعلا؟
فهل ساهم الوضوح الشديد لكل شيء والإجابات الجاهزة الأقرب للتعليب في عزل الإنسان الخليجي / الإماراتي بالأخص اليوم عن خوض غمار تجارب لها من خصوصية البحث والتجريب ما يستطيع أن يبني عليه مادة سردية متينة وعميقة في تفاعلها مع العالم المحيط انطلاقا من فردانية مشتعلة/ متغيرة / متسائلة؟ أما على جانب التلقي فإنه قد خلق متلقياً رافضاً من حيث المبدأ لأي تجارب سردية تتحدى فيه ملكة التأمل والتفكير بشيء من الغموض الضروري؟
ولماذا لم تقرب المدن العالمية الحدثية المتشابهة من الإنسان على مستوى الفكر والفكرة بل زادت من عزلته؟، هل هي الفردانية السلبية على المستوى الآخر هنا التي خلقت جزراً معزولة من الأفراد التي تعيش الحداثة ذاتها بشكل سطحي دون أن تنفذ إلى عمق ربكتنا اليوم، أستشهد من هنا بتحليل لعالم الاجتماع “إيريك فروم” في كتابه “أن تمتلك أو تكون” الذي كان من خلاله يرصد تحولات مجتمعات ما بعد الطفرات الصناعية التي لا زالت تتوالد حتى وصلنا اليوم للنسخة الرابعة منها، يذهب “فروم” في تحليله إلى أن بناء المعرفة وتفريغها أضحى مرتبطا بالمفهوم التملكي أكثر من الآخر الممتزج بالكيان، فكما قد تمتلك أحدث الهواتف وتقود أكثر المركبات تطوراً، أنت اليوم تتلقى المعرفة وتتعاطى معها باعتبارها شيئاً تمتلكه لتبقيه لا لتعيد تدويره، بعكس أن تكون عارفا/ موهوبا/ مما يحول ما لديك إلى شكل من أشكل الكينونة الحيوية التي هي كيان متطور بحد ذاته، تتشارك معه ويشاركك لأنه أكبر بكثير من مجرد استحواذ اعتباطي .. ونمط ” الكينونة ” بشكل عام، هو الذي ينقل الأشياء من بعدها المادي المجرد إلى فضاء معنوي أوسع، ينتج إنساناً أكثر وعيا بما بين يديه .. وأكثر اتزانا في موضوع التحليل والاستنتاج وصناعة الابداع متناولا لمختلف الظواهر العامة .. وإنه من هذا المبدأ، لا يسعى لأن يستهلك لمجرد الاستهلاك فقط .. الذي يقوده إلى مجرد شعور لحظي بالرضا .. إنه يحاول من خلال كل ما يفعله، ألا يصل إلى عتبة سعادة واهية بقدر ما يحاول أن يبقى كائنا متحركا فكريا باستمرار، ومن مجالات التحرك تلك يأتي السرد كعتبة مهمة.
هذا لا يعني هنا أننا لا نمتلك تجارب إماراتية وخليجية ملفته ومثيرة، لكنها وللمفارقة، تتناقص مع التطور الخارجي، مما يعني أن سؤال الكتابة في وجه التمظهرات الخارجية السطحية، قد يكون سؤالا ضروريا وملحاً في رحلة السرد الإماراتي / الخليجي اليوم إضافة لتوفير أرضية نقدية فاعلة في رصد المشهد السردي ، وهو من ذات المنطلق السؤال الذي لا زال يعتمل بداخلي وأنا مقبلة على تجربتي السردية الطويلة القادمة التي ستصدر قريبا، محاولة جديدة تختارني قبل أن أختارها كشكل للتعبير والتفاعل، والتجريب أيضا من حيث البناء التقني للحكاية والشخوص والمصائر فيها، ولعلي أوفق أو لا، فالأمر متروكٌ لرهان الوقت ومستويات التلقي بكل تأكيد.
(1) مفتتح رواية “لعلها مزحة” – صالحة عبيد – منشورات المتوسط 2018