هكذا تحدث ابراهيم ديتو عن سيرته في الحياة والنضال

0
605

كان شاباً يافعاً، للتو  تخرج من المدرسة الصناعية، كان ذلك في العام 1954، حيث عمل مباشرة في التدريب بشركة نفط البحرين (بابكو).. هناك تعرّف على مشرف أحد الأقسام بالشركة اسمه عبد الرضا إيجاد، كان هذا الرجل بسيطاً جداً ومتواضعاً جداً ومثقفاً جداً فقد أعُجب به إبراهيم ديتو اعجاباً شديداً، هذا المسؤول مليء بالكتب والثقافة، بساطته الحياتية لا توحي ذلك.

ذات يوم صيفي كنا نعمل “ساعات إضافية” ـ عملً إضافي شاق بقسم جديد ٍ في الشركة وأثناء فترة الغذاء أحضر لنا أحد العمال “صالونه وعيش شيلاني” في إنائين كبيرين منفصلين، أو ربما في  “صفر طاس” ـ أواني على شكل طبقات ـ بعضها مملوء بالرز وأخرى بصالونة سمك وخضرة .. لم يكن لدينا أي صحن أو “صينية” لنتناول عليها طعامنا، تساءلنا: كيف نأكل هذا الطعام وصاحبنا نسي صحون الأكل؟!.

على الفور همَّ مشرف العمل عبد الرضا  إيجاد فمزق كيس  ورقي كبير مستعمل مليء بالغبار ورذاذ السمنت، أخذ ينفضه من الغبار وبقايا الأوساخ المتصلبة، مرة، مرتان وثلاث حتى بدا نظيفاً نوعاً ما.. وضعه على شكل “سِفرة أكل”، هكذا كنا نعتقد، لكنه فاجأنا بسكب الرز على ورق كيس  السمنت ووضع الصالونه على الرز وكان هو أول من ابتدأ بالأكل ليشجعنا، غدا العمال ينظرون لإيجاد ولبعضهم البعض باستغراب .. التّف العمال على شكل دائري حول “السفرة” وقال أحدنا: “الحاجة أم الاختراع”، آخر تفوّه بمثل شعبي رائج: “مسمارك منك يا لوحة!”.. صرنا نأكل ونضحك فكسب بتواضعه انجذابنا لبساطته وتواضعه.

شخصية عبد الرضا إيجاد أشعرتني لوهلة أنه شخص عظيم ومميز، الابتسامة لا تفارق محياه، بساطته وإنسانيته تسحرني فصرت أتقرب إليه وتشدني شخصيته ودماثة أخلاقه، أعجب بأقواله وأحاديثه، يقول ديتو: كانت هذه البدايات لاختيار طريقي وأتياسر (أتجه نحو اليسار السياسي) في النضال.

ذات مرة سألني عبد الرضا إيجاد: إبراهيم هل تعرف القراءة والكتابة؟!.. قلت نعم؛ أنا خريج المدرسة الصناعية فكيف لا أجيد القراءة والكتابة؟.. فاجأني بسؤال آخر: ماذا تقرأ في أوقات فراغك؟!. تلعثمت، وقتها كنت أقرأ مجلة “المصور” و”الكواكب” وبعض المخطوطات، قراءاتي كانت بسيطة لا تتجاوز المجلات التي تقع تحت يدي أو التي اشتريها أو أتبادلها مع الأصدقاء.

 عبد الرضا إيجاد عندما شعر بارتياحه له سأله سؤآل آخر: “أين تذهب بعد انتهاء الدوام  في الشركة، أيوجد لديك مانع للخروج معاً إلى مكان ما ـ مقهى شعبي مثلاً؟.. وافقت في الحال، وخرجنا، حيث أعطاني رواية “وراء الرغيف” لجورج حنا، وهي أول رواية أقرأها، ومن ثم أعطاني كتب سلامة موسى، وكتب ماركسية لاحقاً، وللحقيقة كانت الكتب الماركسية صعبة ولم أفهمها في البدايات آنذاك، حيث كان يشرح لي لتبسيطها، وبعدها أدخلني في شلته وكان من ضمنهم أحمد الذوادي الذي تعرفت على أخويه، خالد وعبد اللطيف، وبعض الرفاق الآخرين من أصول فارسية: على مدان، حسن نظام حتى غدوت التعرف على الحركة الاشتراكية العالمية.

عبد الرضا إيجاد بحريني  من أصول إيرانية، وهو من عائلة غلوم مستشار ـ صاحب فندق مون بلازا سابقاً، وكان عبدالرضا من مناصري حزب تودة، وهذا الرجل قتلته المخابرات الإيرانية (السافاك) فيما بعد عن طريق دسّ السم له ولرفاقه في وجبة غذاء، طريقة استشهاده مسموماً تحتوي على تراجيديا فكان لآخر لحظة في حياته تتجسد صفاته في نكران الذات ومساعدة الآخرين: حمل رفيقه لإنقاذه وسقطا معاً وتوفيا أمام باب  المستشفى بطهران (أواخر الخمسينات).

بحكم عملي في شركة النفط “بابكو” 1954ـ 1955، يقول إبراهيم ديتو، أدخلت في عدة دورات في أقسام مختلفة بالشركة، كما استفدت كثيراً من الدورات التي كانت “بابكو” تبتعثني فيها إلى بريطانيا ولبنان، وبالإضافة إلى الدراسة والتدريب تعرفتن فتات وجودي في الخارج، على الأحزاب الشقيقة وتجاربها النضالية ونسج العلاقات الرفاقية معهم.

أتذكر كنا نذهب لاجتماعات هيئة الاتحاد الوطني، التي رافقتها بعض الاضرابات العمالية، رفقة حسن جناحي وعلي مدان (من المؤسسين الأوائل للتنظيم)، وكان هذا الأخير (مدان) عامل بسيط جداً لكنه غزير الثقافة ومناضل متماسك.. وكنا نستخدم بعض البيوت كأوكار حزبية وأماكن للقاءات والاجتماعات ودراسة الأفكار التنويرية التقدمية والماركسية وتبادل الكتب الممنوعة.

الخلايا الأولي التي شكلت الجبهة انبثقت من رحم الطبقة العاملة في شركة بابكو  وشركة “اكمي” ـ شركة الإنشاءات الرئيسية في البحرين، حيث تقوم هذه الشركة بتنفيذ أعمال لبابكو، وكانت خلايا أخرى منتشرة في أوساط طلاب الثانوية بالمنامة وفي مناطق عديدة خارج العاصمة، كالمحرق وغيرها. في بعض الاجتماعات كنا نصطدم مع هيئة الاتحاد الوطني، كما حدث في عملية الإضراب في بابكو، حين نشأ جدال بين عبد الرحمن الباكر وحسن نظام، حيث لم نكن على اتفاق معهم بعض المسائل.

عبد الرضا إيجاد هو الذي عرّفني على جبهة التحرير وحوّلني من “سمبتانز” (نصير للتنظيم) إلى رفيق في صفوفه، وأتذكر حينها قال لي: هناك تنظيم تقدمي في البحرين يسترشد بالأفكار الماركسية وينتصر للطبقة العاملة والكادحين يسمى جبهة التحرير الوطني، فهل ترغب في الانضمام إليهم وتعمل في صفوفهم؟.. وعلى الفور وافقت على العمل في صفوف التنظيم بعد أن تشبعت بالأفكار الماركسية وآمنت بها، وكان رابطي (مسؤولي في التنظيم) حسن جناحي.

في تلك الفترة الخمسينية كانت لنا لقاءات مع الرفاق الشيوعيين الهنود وخاصة في الاحتفالات العمالية وفي الأول من مايو (عيد العمال العالمي) حيث كنا نحتفل بهذه المناسبة وغيرها مثل عيد النيروز في البساتين بالقرى، ونصدر ونوزع مناشير باللغتين العربية والانجليزية ليقرأها العمال الانجليز والهنود، وكان بعض الانجليز أيضاً يتعاطفون مع قضايانا التي نناضل من أجلها في سبيل التحرر والديمقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية الحقيقية.

من الحكايات التي يتذكرها المناضل ديتو: نظراً للاجراءات الأمنية المشددة، وصعوبة طباعة منشورات الجبهة، كنا في حاجة لآلة ناسخة (استنسل)، فقررنا أن “نستولي” على واحدة من شركة كريمكنزي.. كانت الآلة الناسخة موضوعة على الباب، فوضعنا خطة محكمة، حيث دخل بعض الرفاق داخل الشركة للمشاغبة وإلهاء الحراس في وضح النهار، بينما قام رفاق آخرون بإخراجها من المحل وبوجود الموظفين بهدف طباعة المناشير والنشرات وأدبيات الحزب، ولأننا ببساطة لم تستطع تأمين مال لشراء مثل هذه الآلة التي نحتاجها بحكم امكانياتنا المتواضعة.

 في قصة للكاتب الإيراني اليساري الراحل صمد بهرنجي “أولدوز والغربان” تقول أم الغربان في حوارها مع أولدوز: “إن لم أسرق فسأموت أنا وصغاري من الجوع. هذه هي الجريمة يا عزيزتي… يجب أن تعرفي أن هذه النصائح الجوفاء لا يمكن أن تمنع السرقة. وطالما ظل الإنسان لا يحب إلا نفسه فستبقى السرقة”.

في فترة الخمسينات والستينات كان هناك مدٌّ قومي وبعثي، وكان بعض منتسبي تلك التيارات يكنون  يكن لنا العداء باعتبارنا “شيوعيين”، وكنا منتبهين لذلك، فوزعنا منشوراً داخلياَ لأعضاء الجبهة محذرين من الانزلاق في خلافات تشق الحركة الوطنية ليحقق المستعمر مآربه في تفتيت وحدتنا الوطنية وبث سموم التفرقة، ونعلم أن عدداً من المناضلين القوميين تحولوا إلى صفوف الجبهة، ومنهم أحمد الشملان ومحمد جابر الصباح وبدر عبد الملك وآخرون، حيث كانوا معنا في سجن “جدا”.

محطات الاعتقال.. والوطن

* اعتقل المناضل إبراهيم ديتو  أول مرة في العام 1961، كما اعتقل في أبريل أثناء انتفاضة مارس 1965 وآخر اعتقال له في العام 1968 ثم أبعد إلى الكويت في العام 1969 وهناك عمل في شركة نفط أسبانية كويتية وفي جامعة الكويت.

* في عام  انتفاضة مارس المجيدة 1965، تم اعتقاله من قبل نائب مدير الاستخبارات البريطانية آنذاك، الأردني أحمد محسن، من منزله في أم الحصم، حيث قام بضربه لحظة القبض عليه وتفتيش المنزل، كان دوره في التنظيم توزيع المناشير وتنظيم الخلايا، ليست له نشاطات طلابية بل نشاطه الذي كان التنظيم يكلفه به يحرص على تنفيذه والاتقان فيه.

* في اعتقال 1968 كان معه في السجن عبد الله الراشد البنعلي وعلي دويغر وسيد إبراهيم سيد سلمان وعبدعلي الخباز وموسى داوود ومجيد مرهون وحسن الحجري والحاج عيسى الديري، حيث كان الأخير يعمل بإخلاص شديد شأنه شأن بقية الرفاق آنذاك.

كويت ـ منامة، ومنامة كويت

* أول مرة رجع إلى البحرين من الكويت بعد نفيه إليها كان في العام 1978 لتجديد جواز سفره، حيث رفضت سفارة البحرين في الكويت تجديده وتم سحبه لمدة ستة شهور وبعد لقاء مع وزير الداخلية آنذاك الشيخ محمد بن خليفة آلخليفة، حيث كان زميل دراسة في الإبتدائية اتهمني بعد الترحيب بي بتهمة العمل ضد الدولة وتحريض الطلبة البحرينيين في جامعة الكويت على كراهية النظام، وذلك حين يجتمعون معي بحسب إدعاءاته في “مختبر الجامعة”، يقول ديتو، وقلت له لا يوجد عندي مختبر في الجامعة وإنما مكتب للتخطيط الهندسي، والمعلومات التي أوصلوها إليكم مغلوطة..

 أمر وزير الداخلية بإعطائه جواز السفر وتجديده، لكنه حصل على مضايقات فيما بعد من الأمن الوطني الكويتي أثناء الحصول على إقامة في الكويت، وبعد جهد جهيد تمت التسوية، حيث كنت أتهم من قبل الأمن الوطني الكويتي في بث الأفكار الشيوعية وسط الطلبة  بالجامعة وفي الكويت عموماً وهي منافية للعادات والتقاليد والثقافة الإسلامية عند الكويتيين، وفق زعمهم.

انفتاح صار انغلاقاً

ناضلنا من أجل البرلمان والديمقراطية والعدالة الاجتماعية الحقيقية، يقول ديتو، لكن حدث حصل تفكك في المجتمع بعد الانفتاح ورجعنا للخلف نتيجة انغلاق كل فئة على بعضها، حيث أن الجبهة عند تأسيسها منذ البداية، أيام هيئة الاتحاد الوطني كانت تضم أعضاءاَ من مختلف الانتماءات: العرب والفرس والأرمن وغيرها من القوميات وأخذت الطابع الوطني الأممي، وكان الفضل في تأسيس الجبهة يعود لنشطاء ثوريين بحرينيين، وساهم رفاق من حزب توده الإيراني فروا من إيران بعد انقلاب 1953 على حكومة مصدق الوطنية في تأسيس الجبهة، وفيما بعد بنت الجبهة علاقات رفاقية ونضالية مع الحزبين الشيوعيين في العراق ولبنان، وقوى اليسار العالمي والأحزاب الشيوعية والعمالية في الدول الاشتراكية.

  • هذه الشهادة أدلى بها الرفيق الراحل في حديث مع فريق شكّله المنبر التقدمي، عام 2015، لتدوين سيرة أوائل مناضلي جبهة التحرير، وتولى رفيقنا الراحل أحمد البوسطة تحريرها، وسبق أن نشرت “التقدمي” جزءاً منها.