إشكالية الهويّة في ظل الهويّات القاتلة!

0
101

في سبيل الحديث عن الهويات لابد أن نتوقف عند أسئلة لا حصر لها. ما الهوية؟ ما مدى حاجة الإنسان لها؟ ما هي حدود الهوية؟ وهل يمكن أن تتحول الى هويات قاتلة؟

 يقول أمين معلوف في كتابه الهويات القاتلة: “لقد علمتني الكتابة أن أرتاب بالكلمات، فأكثرها شفافية غالباً مايكون أكثرها خيانةً. وإحدى هذه الكلمات المضللة هي كلمة “هوية” تحديداً. فنحن جميعاً نعتقد أننا ندرك دلالتها، ونستمر في الوثوق بها وإن راحت تعني نقيضها بصورة خبيثة… إن هويتي هي التي تعني أنني لا أشبه أي شخص آخر”(ص19-20)، على غرار بطاقة الهوية المدنية فهي تميز كل انسان عن غيره بصفات تتسم بها شخصية الفرد نفسه. يصعب تحديد معنىً واضحاً لما ترمز له الهوية، هي هوية وهويات، انتماء وانتماءات، مابين المفرد والجمع أعني الفرد والجماعة تقبع الإشكالية التي حاول الكثير من المفكرين معالجتها.

في الواقع أننا نحاول جاهدين أن نقنع أنفسنا ونقنع الآخرين بأن ينظروا إلينا وفق الكيفية التي نريد ومن خلال هويتنا الفردية التي تميزنا عن الآخر، إلا أن التصنيفات الكبرى أقوى من أن نستطيع تجاوزها ولو حاولنا التغاضي عنها و لأن “حريتنا في اختيار هوياتنا الشخصية يمكن أحياناً أن تكون مقيدة بدرجة غير عادية في عيون الآخر مهما كانت نظرتنا لأنفسنا” (الهوية والعنف- أمارتيا صن ص22)، فما دمت تنتمي أو ولدت ضمن جماعة ما فستنسحب عليك جميع سلوكيات وأقوال تلك المجموعة حتى وإن كنت لاتنتفق مع أغلب متبنياتها أو كنت لا  تنتمي إليها فكرياً.

 هذه نظرة من هم خارج الجماعة، أما داخل الجماعة فسينظر إليك على أنك واحد من ضمن أفراد الجماعة المخلصين لأفكارها وأن جميع الإحتمالات الأخرى غير واردة كأن يكون لك تفكير نقدي حُر أو لا تعتقد أغلب المسلمات. تحدد الشعوب الأخرى وفق هوياتهم ويكون ذلك التصنيف في غالبه بدائياً غريزي لايخلو من عصبية وعنصرية مبطّنة، وهذا يحدث حتى عند الشعوب الأكثر تطوراً وتمدناً، كأن تصنف الجماعات وفق انتمائها الديني أو المناطقي أو العرقي، وعلى هذا النحو قد تتحدد هويات الأمم بانتماء واحد يكون محدد له سلفاً.

بعد أحداث 11 سبتمر 2001 التي هزت الولايات المتحدة والعالم، سعى الأمريكيون وفق برنامج ممنهج كان صلموائيل هنتنغتون قد عمل عليه، جرى من خلاله تصنيف الأمم تصنيفاً لا يخلو من الإختزل والعنصرية مبنياً على فكرة صراع الحضارات، فمثلاً جرى تصنيف الهند على أنها هندوسية دون الأخذ بالإعتبار ذلك التنوع الهائل الذي يشكل حضارة الهند، إنها بلد الأديان ومختلف الثقافات والتاريخ الطويل، وجرى تصنيف الشرق الأوسط على أنه إسلامي دون الأخذ بالإعتبار التنوع في الأديان والأقليات الأخرى، يغفل هذا التصنيف الإعتباطي أن الهند وحدها تضم 145 مليون مسلم، هذا التعداد أكثر بكثير من أي بلد آخر، أكثر عدداً حتى من مسلمي المنطقة التي صنفت على أنها إسلامية، كذلك يصعب أن نتجاوز الأدوار الكبيرة للمسلمين في تاريخ الهند الى جانت الطوائف الأخرى.

كان الإستطراد السابق عن تصنيف الهويات الكبرى للأمم واختصارها في انتماء أحادي أو ثنائي تنظر لنا الأمم الأخرى وننظر لها وفقه. نعود لمناقشة الموضوع الأساسي الذي يتعلق بالهوية على مستوى الأفراد والجاعات. يتبين من خلال تجارب الأمم أن الهوية بالمجمل عبارة عن طيف متعدد من الإنتماءات: مكانية، اجتماعية، فكرية تُشكل منطلقات الفرد وميولاته، هذا التعدد في الإنتماءات يقرّب الفرد من ذاته أما إذا اختزل هذا التنوع إلى انتماء واحد يتحتم على الفرد أن يتبناه ويدافع عنه بقوّة، بل ويفرضه حتى على الآخرين ويقيّم الآخر من خلال هذا الإنتماء، وتتحول الهويات إذا ما طبقت بهذا الشكل إلى هويات قاتلةٍ لا تنتج سوى مجتمعات استبدادية وأجيال مستلبة.

الهوية أقرب الى مادة الطين المرن يشكّل الفرد تحت ضغط المجتمع والجماعة، إما أن تضيق جداً وتتخذ شكل انتماء واحد لتصبح مادة صلبة متحجرة، أو أن تتسع لتشمل انتماءات عديدة تترتب تصاعدياً عند الفرد نفسه من أقوى الإنتماءات تأثيراً الى أقلها وأنها جميعها متغيرة بتغير الظروف الخارجية السياسية والإجتماعية والنفسية والفكرية، تكون الهوية أشبه بالطين المرن الذي يمكن أن يتشكل بأشكال عديدة متماهياً مع المتغيرات دون  أن يفقد الطين ماهيّته كمادة طينية رغم تعدد أشكاله ومظهره الخارجي. تتألف هوية الفرد من عدة عناصر لا تقتصر على الإنتماءات الكبرى الواردة في السجلات الرسمية كالإنتماء الى مذهب ديني وجنسية أو حتى جنسيتين، ومجموعة اثنية ولغوية وأسرة قد تكبر أو تصغر، ومهنة ومؤسسة ومحيط اجتماعي معين، والقائمة تطول، فقد يشعر الفرد بانتماء قوي الى إقليم أو قرية أوعشيرة وفريق رياضي و جماعة مهنية وشلة أصدقاء ونقابة وشركة وحزب أو جمعية…الخ، سلة الإنتماءات هذه هي ما قد يشكل هوية الفرد دون أن تنتقص من جوهر الهوية شيئاً.

يعمل التطرف العقائدي (أياً كان اتجاهه) على اختزال هوية الفرد في هوية الجماعة، ويتحول الفرد الى أداة تنذر نفسها إلى الدفاع عن الجماعة أو الحزب، وهنا يحصل الخلط مابين الهوية والإيديولوجيا، ومن هذا المنطلق يمكن العمل على تفكيك سيكولوجيا الجماهير أو عقلية القطيع حيث يدجّن الفرد بكل طاقاته من أجل جماعته العقائدية في الخير والشر معاً! فيكون الخط الفاصل بين الخير والشر ضبابياً يجاوز الخير فيه حدود الشر ويدخل الشر على الخير، ويتم تبرير أعمال الأفراد ومباركتها على القدر الذي تصب فيه لمصلحة الجماعة أو المجمموعة.

للعولمة الغربية أيضاً دورٌ سلبي لايقل عن التطرف العقائدي، حين تحاول العولمة أن تفرغ الفرد من جميع انتماءاته التي تشكل نواة تكوينه وتنظر إليها بازدراء، الأمر الذي يضطر الفرد لأن يتخلى عن هويته وما سيترتب على ذلك من اغتراب، أو أن يدافع عنها بقوة وبشكل راديكالي يتحول الى عنف يغذيه الخطاب المتزمت. ومن جهة أخرى من غير الإنصاف أن لا نذكر الجوانب الإيجابية العديدة للعولمة ولعل أبرزها ثورة الإتصالات  التي قربت المجمعات من بعضها حتى أصبح العالم قرية صغيرة قللت الفوارق بين المجتمعات والثقافات مما ساهم في نشر وعيٍ أكثر تحرراً من قيود البيئة المحيطة، صارت المجتمعات الحديثة من القرب الى درجة أنها باتت ترفض وتتقزز من أشكال العبودية واللامساواة وتفوّق الرجل على المرأه وتراتبية الأعراق وهي أمورٌ كانت عادية في السابق بل أن بعض الثقافات التي كانت تحثّ عليها اضطرت اليوم تحت  مطارق الحداثة إلى تحديث جزء من منظومتها الفكرية.

أصبح الوضع اليوم أكثر تعقيداً. تفككت الإنتماءات والمرجعيات إلى حد السيولة، وصار قلق الهوية ينتاب الفرد والجماعة لأن الإنسان بطبعه كائنٌ اجتماعي يزدهر داخل مجموعة من عدّة أفراد أو قبيلة أو جماعة إثنية دينية أو عرقية. اليوم أصبح مفهوم اللامنتمي أكثر رواجاً، أعتقد أن اللامنتمي هو الفرد المتعدد والمتغير الإنتماءات وإن صح تسميته بالفرد السائل! الفرد الذي لا يتبنى عقائد نهائية  صارمة مع كل هذا فهو لا يتخلى عن هويته التي تشكل ذاته، “وإذا كان يجب تجاوز الإنتماء الى قبيلة كونية، فذلك لن يكون إلا على نحو انتماء أشمل يحمل رؤية إنسانية أكثر اكتمالاً” (الهويات القاتلة-معلوف ص116 )، يبقى من المهم احتفاظ الفرد على لغته الإنتمائية ومن حق كل إنسان أن يستعمل لغته دون حرج أو تردد وقد تساهم التكنولوجيا الحديثة عن طريق انظمة الذكاء الإصطناعي بالتعرف والتحدث مع اللغات الأخرى باللغة الأم نفسها. اللغة هي العامل الأكبر في هوية الفرد وقد اختصرها محمود درويش في عبارة واحدة مكثّفة شديدة الدلالة “أنا لغتي”.

وفي ما يتعلق بالإنتماءات الدينية والتي يشعر المؤمنون بالقلق عليها من تبعات تغيرات العصر الحديث، يقول معلوف: “فعندما أتحدث عن تجاوز الإنتماء الديني لا أعني أنه يجب تجاوز الدين نفسه. فلا العلم ولا أي عقيدة ولا أي نظام سياسي – في اعتقادي – سوف يرمي بالدين في غياهب التاريخ، وكلما تطوّر العلم وجب على الإنسان أن يتساءل عن غايته، سوف يتلاشى إله “الكيف؟” يوماً ما، ولكن إله “اللماذا؟” لن يموت قط…وأضيف على الفور أن التعبير عن الحاجة الروحانية -من وجهة نظري- لا يجب أن يكون إلزامياً عبر الإنتماء الى جماعة من المؤمنين” (الهويات القاتلة ص114 )، والذي قد يبقي الأفراد على الإنتماء لجماعة دينية هو مدى تجاوب ومرونة قراءتها الدينية مع الواقع.

من الخطأ أن تتحول الإنتماءات الطائفية الى هويات بديلة عوضاً عن إدراجها في هوية وطنية يعاد تحديدها وتوسيعها. ذلك يحتاج إلى جو من الرفاه والإستقرار السياسي وهامش من الحرية مما يتيح للأفراد التفكير بحرية، الأمر الذي قد يساهم في تكوين أراء متعددة ومختلفة. الضغط على الهويات العقائدية والتضييق عليها قد يتسبب في تمسكهم بهوياتهم أكثر، حينها يبدأ الإعتقاد بأن كيانهم الوجودي مهدد، فيكونون أكثر إصراراً على الإنغلاق والتزمّت حفاظاً على هويتهم الجماعية وتتحول الى بُنية أيديولوجية يصعب تفكيكها. “إن الأنظمة التي تحظر كل حياة ديموقراطية تساعد في الواقع على تعزيز الإنتماءات التقليدية. وعندما تسود الريبة في أحد المجتمعات، تكون الأشكال الأخيرة من التضامن هي الأعمق والأقوى، وعندما تخنق كل الحريات السياسية أو النقابية أو الأكاديمية، تصبح أماكن العبادة الأماكن الوحيدة التي يمكن التجمع فيها والمناقشة والشعور بالتضامن في المحن والشدائد” (الهويات القاتلة- معلوف ص172 )

يحلم معلوف ويتمنى بصدق كما كلنا نتمنى أن تعود شعوب العالم وتسلك الدرب الذي أبصرت فيه النور لأول مرة وسعت من خلاله نحو التقدم، وأن تترك شعوب منطقتنا وراءها زمن القبائل وزمن الحروب الدينية وزمن الهويات القاتلة من أجل بناء حضارة عالمية مشتركة، “يجب العمل بحيث لا يشعر أي إنسان بأنه مستبعد عن الحضارة المشتركة التي تبصر النور، وأن يجد كل إنسان فيها لغته الإنتمائية وبعض رموز ثقافته الخاصة،  وأن يتمكن كل إنسان من التماهي، ولو قليلاً، مع ما يبرز في العالم الذي يحيط به، بدل الإلتجاء الى ماضٍ يعتبره مثالياً…الشعور بالإنتماء أيضاً الى المغامرة البشرية” (الهويات القاتلة- معلوف ص190 )  إنه حلمٌ طوباوي صعب التحقق لكنه ممكن..