في شأن الديمقراطية ومنظومتها يمكن ان يقال الكثير ، وإذا كان ثمّة حاجة للتذكير بأنها وبإيجاز شديد حريات وحقوق وواجبات ومساواة، وبمقدار حضورها كممارسة يومية تطال جميع مناحي الحياة، وأسلوب للتفكير والسلوك والتعامل في أبسط القضايا حتى اكبرها واخطرها، ووسيلة للتغيير في الظروف وفي المناخ وفي الآفاق والا اصبحت الديمقراطية مشروعاً مؤجلاً، نتشدق بها، ننهمك بالشعارات اكثر مما نمارسها همة واهتماماً، نتحدث عنها، ومنذ أعوام اصدر استاذ العلوم السياسية اللبناني غسان سلامة كتاباً عنوانه “ديمقراطية بدون ديمقراطيين” وصف فيها حالة غياب الديمقراطية في البلدان العربية التي يرى أنه قد استعيض عنها مع سبق الاصرار والترصد بالبيروقراطية التي تمسك بدفة الأمور في هذه البلدان، وهذه باتت لها قدرات فائقة على قلب كل مقتضيات الديمقراطية الحقة!
الديمقراطية ليست شكلاً او هبة او منحة او مكرمة من احد ، وليست أفكاراً مشوهة عن الولاء او عن التنمية والتقدم، وهي لا تنحصر أو تتمثل في مجالس نيابية او هياكل او هيئات صورية، او احزاب ونقابات وجمعيات ونقابات مقيّدة ولا حول لها ولا قوة ونقدمها على انها شكل من اشكال المشاركة الشعبية والتطور الديمقراطي، وانما الديمقراطية عملية تحويل جذرية للمجتمع من حيث طبيعة السلطة في المجتمع، وعلاقات القوى بين مكوناته، يمكن القول انها حقوق أساسية لا غنى عنها، وهي دائمة ومستمرة، ولها قواعد وتقاليد، هي ليست من اجل قلة، او فئة بل هي للجميع ولأجل الجميع دون تمييز، هي حالة حياتية تتفاعل مع البشر يتفاعلون معها ويحددون على اساسها خياراتهم الكبرى ، فتغيرهم ويغيرونها من وضع حسن الى الأحسن، هي التي تجعل الأنظمة اكثر فاعلية وكفاءة، واكثر وعياً ومسؤولية، وهي التي تنتصر على كل الأفكار الاستبدادية العقيمة والتسلح بالحق والعدالة، هي باختصار تعنى حماية المواطنة بقدر ما تعنى حسن ادارة الأوطان .
هذه الديمقراطية احتفل العالم بيومها العالمي في الخامس عشر من سبتمبر، وإذا كان من اهم اهداف هذه المناسبة الوقوف على تطور الممارسة الديمقراطية بشكل عام، وتبيان اهمية الديمقراطية كمسار حياتي للشعوب التي ناضل جيل كبير منها من اجل بلوغها بكل تجلياتها، ودفع كل دولة من اجل تعزيز المكتسبات الديمقراطية فيها، الا ان كثير من الدول تحتفي بهذه المناسبة ولكن من باب انها مجرد ذكرى عابرة والسلام، تستغل ورقة الديمقراطية لتردد الكلام الخالي من الدسم، والفارغ من المعنى والمضمون ..!!
ذكرى عابرة والسلام ، أليس هذا ما يحدث الآن في كثير من البلدان التي شوهت كل المعاني الديمقراطية و اعاقت المسيرة الديمقراطية او امتصت حيويتها وما فيها نفس ديمقراطي، وجعلت الديمقراطية آخر همومها، بل وجدنا من يطرح بان الديمقراطية بدعة مستوردة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وطرحت في هذا الاطار ما يندرج تحت عنوان خطف الديمقراطية على نحو فيه الكثير من السطحية والتلفيق الساذج ، كما وجدنا كم من الجرائم ترتكب باسم الديمقراطية، وكم من ممارسات جعلتها اشكالاً من المظاهر، مفرغة من الروح، وهناك دول جعلت عباءة الديمقراطية واسعة، فضفاضة، تعترف بحق الشعوب في ان تنعم تحت مظلتها بنعمة الحرية، وتمرح ما شاء لها المرح، بشرط ألا تتكلم، ولا تتنفس، ولا تنتقد، ولا تطالب، ولا تجتمع، ولا تعترف بخطأ، ولا تتحدث عن حقوق او واجبات، ولا عن فساد وهموم ومشاكل، كل ما عليها ان تصفق، وتهلل، وتطبل بأسلوب، ولا يهم ان وصلت الأمور الى ما يستخف بعقول الناس .
مسكينة حقاً الديمقراطية حين يجرى حشرها في دائرة الغنيمة، أو العقلية الفئوية، أو الطائفية، او حين تفصل على أهواء البعض، او حين تُحوّل تحت مظلتها حقوق الناس الى هبات ومكرمات، او حين تختزل في مجالس برلمانية صورية لا صلاحيات لها، ولا هيبة، مجالس تحولت الى منابر للإرشادات، والمجاملات، وارسال التهاني والتبريكات في المناسبات، وفي حول كل شأن ومجال وميدان، وانتخابات لا تقصى المعوّج ان لم تأتى بما هو اكثر اعوجاجاً، وتوظف في ما لا يعطي المثل الصالح للنبت الديمقراطي.
مسكينة الديمقراطية حين نجد من يزعمون انهم مكلفون بتأسيسها او صناعتها او دعمها او ترسيخها وهم يجعلونها وكأنها سباق الى الهاوية، يعملون على اغتيالها ويجعلونها جزءاً من مشاكل جديدة وليس جزءاً من حل مشاكل قائمة، وبوجه عام يفرغون اي شحنة ديمقراطية من كل مضمون ويجعلون الديمقراطية لعبة عبثية، والمطالبة بها كلام فارغ.
حتى الكيانات الأهلية بكل تشكيلاتها من احزاب وجمعيات ونقابات واتحادات، والتي يفترض انها قائمة على أسس ديمقراطية، أو تطالب بالديمقراطية وتحمل لواءها في كل محفل شوهت مساراتها ، الى درجة اصبحنا نجد ان الديمقراطية في بعضها او كثير منها مفقودة، او مشوهة، او معاقة، وبات التضييق مصير من يعترض داخل اي منها على أي قرار او سلوك او تصرف، او خلل او خلاف او اتجاه او توجه ، تتصارع في هذه الكيانات الاتجاهات والتوجهات والمصالح، وبعضها وجدناه بقدرة قادر وهو يتحول الى كيانات اشخاص يقوم حولهم كل شيء، اشخاص ذو عقليات معيقة لم تتغير الا في مستوى الشعارات، أسوأهم اولئك الذين ارادوا جعل غيرهم غير قادرين على الاعتراض أو المناقشة، او حتى ابداء الرأي، ومن يفعل ذلك فهو “مشكلجي” او مشاغب او مدسوس، او ثرثار، او انسان يجب ازاحته باعتباره يعيق العمل الديمقراطي في هذه الكيانات.
أزمتنا تنبع من أننا ننشد الديمقراطية، ولكن غير مستعدين لدفع مهرها، فهي غالية المهر، ثقيلة التكاليف، وفي هذا السياق يمكن ان نتوقف امام بيان المنبر التقدمي بمناسبة اليوم العالمي للديمقراطية فقد عبر عن هذه الحقيقة حين اشار الى عدم امكانية تطور اي مجتمعات، وتقدم اي شعوب في بلدان صودرت فيها الديمقراطية وغابت عنها العدالة الاجتماعية وسادت محلها اجواء من القمع والاستبداد والقمع، مع التشديد على اهمية نشر القيم والمبادئ الديمقراطية التي تؤسس لوعي سياسي يعزز ثقافة حرية الرأي والتعبير واحترام حقوق الانسان وتأسيس المنظمات النقابية والمهنية وبناء الدولة الحديثة.
اضافة الى ذلك، ثمة جانب آخر مهم وهو عدم امكانية الحديث عن الديمقراطية السياسية دون الحديث عن الديمقراطية الاجتماعية، من منطلق ان تراجع العيش اللائق والعيش الكريم، ونوعية التعليم والصحة والسكن وصحة حماية ودعم مؤسسات الأعمال الصغيرة والمتوسطة والتخلي عن بحرنة الوظائف وزيادة اعداد العاطلين والضرائب غير العادلة وغير ذلك من الأمور لا يعزز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وبالتالي يصعب ترّسخ الديمقراطية، وهذه القناعة المنطقية وما جاء في البيان بمجمله يجعلنا نخلص الى ان الديمقراطية هي حقوق اساسية لا غنى عنها، وهي دائمة ومستمرة، وتعنى ضمن ما تعنيه القضاء على التمييز، وان المواطنون متساوون، وانه لا فضل لأي كان على احد الا بما يترجم مواطنيته وانسانيته الكاملة.
ان من بين أخطر ما تواجهه قضايا الديمقراطية والاصلاح والتغيير هو تلك النوعية ممن ينادون بالديمقراطية ولكنهم يفهمونها على طريقتهم ومقاس مصالحهم، ويتعاملون معها من منطلق الغنيمة، وعقلية الولاءات الضيقة، والغريب ان البعض ممن يحملون شعاراتها ويدعون لها ويطالبون بها ويحملون راية التغيير والاصلاح، يتجاهلون او يجهلون ان اقتلاعهم اول ما يتطلبه اي اصلاح او تغيير حقيقي منشود وملموس على ارض الواقع.
إننا بالفعل امام فجيعة الناس في الديمقراطية الحقة التي ينشدونها فلا يجدونها، وفجيعة الديمقراطية في اناس أخذتهم المظاهر، ضاعوا وأضاعوا الطريق المؤدى لها، فقط نتكلم عن الديمقراطية ولا نمارسها، قد نختلف على تفاصيلها ومعانيها ومقاصدها ومقتضياتها، وفي الوقت ذاته نعيق استزراع بذورها، ونظل نطالب بها، ولا نعلم هل يمكن ان تكون الديمقراطية علاجاً لأزماتنا وهي نفسها في أزمة بفعل فاعل او فاعلين يستثقلون استحقاقها، ويجعلونها مرتهنة أو مغيبة عن الفعل وضرباً من التمني.
الخلاصة، الديمقراطية الحقة بكل تجلياتها، هذه هي الديمقراطية المطلوبة التي تلزمنا يقيناً وليس غيرها والتي يجب ألا تكون ورقة سياسية مؤجلة الدفع.