اكتشاف القصيدة

0
34

كان للحلمِ طعمُ البراءةِ، طفلةٌ تكتشفُ ملوحةَ البحرِ وتعشَقُه رغم ذلك، تغازلُه بجسدِها كلَّ يومٍ، رغم اعتراضاتِ الأم. كان هو قصيدتي الأولى.

الموجُ بأشكالِه كان القصيدة …زبدُ البحرِ كان الدهشة. ارتطامُه بالساحل ليبلّلَ أقدامَ الأطفالِ كان مرحَ القصيدة…هكذا كنتُ أغزلُ حروفي الأولى على شرفِ الماءِ وخرائطِ مِلحِه المرسومةِ على جسدي.

كنتُ أُخبِرُه بكل انتكاساتِ قلبي كفتاةٍ قرويةٍ تتمرّدُ على كل شيءٍ، ألجأُ، إليه أبكي التمييزَ بحرقةِ المقهور. ذلك كان أول البوح.

وحينَ مراهقةٍ كنت أكتبُ له رسائلَ الغرامِ وأخبئُها في قناني ثم أرمِيْها إليهِ ليحفظَ سري ويحفظَ شكوتي. إلى أن خَنَقوهُ بالرملِ. وسُرِقتْ ضفائري. وتلك هي أول التفاته لأهمية الكتابة.

تزامنَ الموتُ، لم نعد نلتقي ومارسنا الاختناق، ثمانيةَ عشرَ عاماً كنا نقاومُ اختناقنا، إلى أن قررنا أنْ نفرح. 

وكلُ صرخةٍ كانت شهقةُ قصيدة. بدأنا معاً نتهجى حروفَ الحرية ونصعدُ بالحرف على صوتِ أمي الذي كان طوق نجاة لي لاكتشاف عالم مليء بالعجائب كصندوق الدنيا فكانت تشغلنا بالحكايا والحزاوي تضرب الأمثلة وتشعر بأبيات من التراث الشفاهي تغنينا وتسد خانة الفقد واليتم كان الحزن يتغلغل لقلبي بصوتها الشجي حين تنشد قصائد الرثاء فأبكي، وكنت أطرب جدا وهي تغني لي: (فاطمة يا فطمطم يا عشيرة وقوم راحت تبيع الغزل بقيت 12 يوم مدري خذوها عجم وإلا خذوها روم).

ثم بدأ التمرد، والتمرد نجاة فهو صرخة في وادي الظلم وطريق للحرية والتغيير ولأن المتمرد يحتاج لعالم خاص ينتشله بعيدا عن الفضاء المشحون بالتوتر كانت القراءة، بعدها جاءت النجاة فانتصر الحرفُ والموج، عدنا نقوي ما أضعفَه الوقت.

أقرأ ويرقصُ الموج، أبحثُ ويغني لي. نرقصُ معاً وننسج محبة. ونهيم بعيدا عن ضجيج هذا العالم، هكذا كانت القصيدة تشهق داخلَنا. وما زالت. 

ولأن القصيدة رؤيا تتفجر بالقلق سرنا معا في طريق الدهشة والنشوة ولأن القصيدة هي وعي بالعالم سرنا نغمس الواقع بالدلالة واللغة ونحدد شكل القصيدة كما ينبغي للشكل أن يكون أي كما يأخذه الإحساس والخيال، الرمز وجلالة المعنى والموقف، ولأن القصيدة في حياتي كانت بديلا للرصاص أتمنى أن ينتشر سرها الغامض ليرتب هذا العالم ويفتت فوضاه الجامدة، القاسية والمتوترة لتصبح الحياة تجسيدا شعريا راقصا وخلقا جديدا سؤالا وجوابا في وجه الريح للشعر والإنسان والعالم.

ربما تكون هذه الكتابة حالمة في ظل ما نعيشه اليوم من حروب ودمار، هكذا بدأ كل شيء جميل بالحلم وما الحقيقة إلا حلم سابق. ما زلتُ أحتاج الكثيرَ من رقصِ الموج وما زال كذلك. يحتاجُ شهقةَ القصيدةِ على سواحلِه.

ونحن في طريقِ الشمسِ نرمم ما هُدِم من أرواحِنا. نستغيثُ بالمطر.

بحرٌ يغازلُ أقدامَ الصغارِ وحرفٌ يغازلُه الحبُ ويطرّزُ البنفسجُ حزناً وحريةً وحياة.