عن الساكن والمتحرك في المسرح

0
27

يظهر أحياناً على خشبة المسرح أن يلمع نجم ممثل قد يُرى لأول مرة، لكن العلامة التي يتركها تستدعي أن يبقى في الذاكرة طويلاً. في المقابل، هناك من “يعبر” معظم عمره على الخشبة، ويمضي دون أثر. كيف يحصل هذا التمييز، برغم الجهد الأكيد المبذول منهما؟ وكيف لممثل أن يضع بصمته من أعمال محدودة؛ وآخر تكتشف بصمته بعد رحيله، كأنَّ العمر الذي أفناه لم يكن مرئياً في حياته؟

يعدّ الممثل هو واجهة العمل المسرحي الرئيسية، لذا من المألوف أن يستوقف المتلقي حضورُه وأداؤه على الخشبة. كيف تكون علاقته مع المخرجين والقائمين على العمل؟ كيف يستقبل التوجيه والإرشادات؟ ما مساحة إبدائه للرأي؟ كيف يبتكر حركته الخاصة حتى يضفي على الشخصية ما درسه، أو ما راكمه من خبرات، أو الاثنين معاً؟ كيف تخلق الكاريزما لممثل، ولا يحظى به آخر قد تكون مساحة دوره أكبر؟ وهل مساحة الدور هي التي تعطي أهمية للممثل حقاً؟

وتثار هكذا تساؤلات تحديداً عندما يكون هناك تاريخ معروف عند المتلقي عن المخرج أو الممثل -على سبيل المثال- تحفز التوقعات بناء على السيرة السابقة. وغالباً يهتم العموم بالممثل الذي يظهر في العمل، ويحكمون من خلاله على الجودة. فهم غير معنيين – بطبيعة الحال – بتفاصيل الكواليس التي تخصّ تركيب وتفكيك العمل الفني.

ويرصد عرض “متحرك ساكن”، لمؤلفه السعودي فهد ردة الحارثي، جانباً مهماً من نفسية الممثل، وعلاقته بالعمل والقائمين عليه، وهذا الصراع الداخلي الذي يكونه حتى يحظى بدور هنا أو هناك في عمل ما. وهذا شعور لا يخطر ببال المتلقي – ربما – كونه غير مهم بالنسبة له، ولأن النتيجة النهائية هي المهمة. وفي قلة الفرص المطروحة، مقارنة بالراغبين في المشاركة في العمل، ستكون المحصلة أن العرض أكثر من الطلب. لذا فإن التمسك بفرص واهية، كما البطل هنا، فضيلة واجبة الممارسة، حتى وإن بدا المخرج جاهلاً فقيرا بأبجديات العمل الذي يلزم عليه أن يتيح مناقشة الشخصية مع ممثليه وبقية عناصره الفنية.

وحتى يبين النص/ العرض سلطة المخرج المبالغ بها، وأيضاً لا يظن المتلقي أن الرواية من جانب الممثل وتصوراته؛ يظهر هذا في علاقته مع الممثل/ الممثلين، وكيف أن صوته يشق فضاء المسرح لتخرج الكائنات التي تتابع صوته “المشتعل بحريق الكلمات”(1). يأتي الجميع على الخشبة وهو يصرخ كأنه يعلق المشانق على حد تعبير المؤلف، ثم بعد صمت طويل ينهض ويلغي البروفة! كأنها قياس على سلطته وإمكانية تسيير المجموعة حسب رغبته وحسب، ودون أن يضطر للتبرير على الإطلاق. وهذا النموذج مأخوذ به، ويمارسه كثر ممن تطولهم هذه السلطة التي تأتيهم أكبر من مقاسهم. لذا يسيئون استخدامها، حتى لو كانت لمرة واحدة لا تتكرر.

ينتقل بنا بطل “ساكن، متحرك” إلى الطقوس التي تسبق عرض العمل المسرحي، وهي قراءة الطاولة، وكما يصفها الحارثي في نصه بالترتيب بأنها: همهمات وقراءة متعثرة، وأخيراً قراءة واضحة، لنص لا يسمح لممثليه –أو مؤديه على وجه الخصوص- إبداء أي اعتراض، أو نقاش، أو تساؤل، وهو أول علامات التعنت لدى المخرج. ورغم كل التنازلات التي تأتي في مقابل أن يأخذ الدور، ويضيف له من روحه، ويكبر به، ليعرض عليه غيره، ويحقق طموحه الفني، وفي عمق هذا التصور الحالم، يطلب منه المخرج تسليم نصه، ومبرره أن قدرته اللفظية ضعيفة جداً مقارنة بقدرتك الحركية (2)، ويأتي هذا مباشرة بعد نقاش الممثل للممثلة/ الإغواء/ السيطرة، وما يلحق هذه المصطلحات من تبعات.

التفاصيل هنا لمن لم يشارك بها أو يشاهدها عن قرب، أتى على ذكرها المخرج العراقي الكبير جواد الأسدي في كتابه “جماليات الروفة”، الصادر عن اللجنة الدائمة للفرق المسرحية الأهلية في دول مجلس التعاون، حيث يستعرض التفاصيل المتعلقة ببناء العرض إلى الوصول الكلي لصوره النهائية، وهذا ما يُفتقَد في كثير من مخرجي المسرح في هذا الوقت. وإذا ما بحثنا في الأسباب، سنجد المعيارية المفقودة، حيث إن وظيفة الإخراج – في كثير من الأحيان – يحملها من يقرر أن يجلس على كرسي الإخراج، دون أن يكون هذا مبنياً على دراسة، أو علم، أو حتى خبرة يمكن أن تسند هذه “الرغبة”، المؤمل ألا تطول وتفسد ما بقي من جمال في المسرح.

ويبدو أن الممثل، الذي يقوم بدوره بإتقان بدر الغامدي، أكثر وعياً بأهمية أن يحدث تفسير وتحليل للنص مع المؤلف؛ هذا المؤلف الذي وصفه بأنه لا يجيد الكتابة، وأنه مجرد صوت للممثلة(3)، وتجلى هذا الوعي تحديداً في رغبته بدراسة تاريخ الشخصية لتقمصها حسب المطلوب، وحسب تشغيل الخيال عنده، ثم تأتي للحركة التي يتصورها المخرج، وتنفذ بالاتفاق مع ممثلي عرضه، وهذا من داخل العمل، لكن من الخارج، هناك شخصيات ثلاث -على الأقل- نجح الممثل في أن يندمج بشخصياته المتعددة لإيصال الإحساس إلى المتلقي بملء الخشبة، وهم: الممثل/ المخرج، والممثلة التي تقوم بدور تقليدي نمطي بائس في إغواء المخرج وتسيير العمل على هواها. وفي الواقع، يمكن أن يحلّ مكان الممثلة، ممثل لديه مصالح مشتركة مع المخرج/ منتج، أو جهة إنتاجية تفرض رأيها/ أهواء ومزاج أي شخص كبير للعمل المقدم.

وعلى حين أن نص “ساكن، متحرك” يبدو مكتوباً لوصف العلاقة الشائكة بين الممثل والمخرج، وما يقوم بينهما في الكواليس وعلى خشبة المسرح، لكنه واقعاً يعكس العلاقة بين أي رئيس ومرؤوس، يسود علاقتهما الود والتفاهم، أو المناكفة والإقصاء. وما ينقله المؤلف هنا هو تصغير لمجتمع أكبر من الخشبة المقصودة. وهذا يحيلنا قسراً إلى عنوان العرض؛ “ساكن، متحرك” والفاصلة التي بينهما مقصودة وموجودة في النص. ولأنه عنوان مستلّ من قواعد اللغة العربية؛ فلا بد أن له غاية ضمنها الحارثي لعمله. فما هو الفرق بين الحرف المتحرك والساكن في اللغة؟ الأول هو ما كان مضموماً أو مكسوراً أو منصوباً، أما الثاني فهو الذي توضع عليه سكون ويوقف عليه في الكلام، والأهم أن اللغة العربية لا تقف على متحرك، ولا تبدأ بساكن. فهل قصد المؤلف أن الساكن هو المخرج، والمتحرك هو الممثل، بناء على هذه العلاقة النحوية؟

وهنا المخرج “الساكن” – على لسان الممثل – غير ملم إلا بمقولات جاهزة لمسرحيين عالميين، يقوم بإسماع ممثليه إياها متى ما تورط في حوار معهم! وهذه إشارة إلى صناعة الحاجز والمسافة حتى يقفل باب الأسئلة والنقاش، على شكل تجهيل الآخرين والترفع عليهم، وهي ذريعة مستخدمة كثيراً في أجواء المسرح؛ حين يعجز العمل بغموضه وسطحيته أن يصل أو يمتع متلقيه. تقاس المونودراما عادة بمقدار “الملل” الذي ربما يتسرب للمتلقين عبر ممثل واحد على خشبة لمدة تزيد أو تنقص عن الساعة، لكن الـ”المتحرك” بدر الغامدي وظّف إمكانياته الجسدية والأدائية، وأيضاً الصوتية في غناء عذب لبعض المقاطع المعروفة، وهذا الإتقان يبدد أي فكرة عن أن المونودراما سرد متواصل لا يختلف عن الدراما الإذاعية. فالحركة والفعل في أداء واعٍ هما ديدن التشخيص على الخشبة وحيداً.

ولا بد من الإشارة لدور السينوغرافيا التي ساهمت في عدم جعل الممثل في مونودرامته وحيداً، حيث صنع لنفسه أدوات يخاطبها، ويغني لها، ويتفاعل معها كعناصر مساعدة. كما أن الممثل يقطع حديثه المسترسل ليتوجه للكونترول باقتراحات تفيد في بروزه شخصية الممثل، عبر الإضاءة التي تتماشى مع حالته النفسية أثناء تبدل حوله وهو يروي عن حكاية الخشبة معه، أو حكاية خيبة أمله في الدور الذي “تخشّب” قبل أن يلمسه!

والقدرة الصوتية التي وظّفها مخرج العمل لممثله الوحيد من خلال مفتتح أغنية “مضناك جفاه مرقده”، وهو مولٍّ ظهره للجمهور، قبل أن يدخل مباشرة في تجسيد قضيته، قد أثمرت عن بداية موفقة يدرك فيها ثقل الممثل وقدراته التي تنوعت بين أداء جسدي مرن، وتنقل سلس بين بوح ووصف وإشراك المتلقي في الحالات التي يمر هو أو أي ممثل يعبر هذه التجربة.

في هذه المونودراما يتعاطف المتلقي مع بطله، لأنه يروي بأسى مسألة “الفرصة”، هذه التي تمنح ربما لغير مستحقيها لاعتبارات غير الكفاءة بالطبع، وهي آفة تنهش في الوسط المسرحي والثقافي، وهذا لا يعني عدم أو انخفاض تواجدها في الأوساط الأخرى، لكن على اعتبار أن معياري الفن والأدب: الموهبة الكفؤة التي تتيح استكشاف الوجوه بدل تكرارها. وهذا لا يمنع من استمراريتها في كل الأحوال؛ وربما لن يأتي الوقت الذي نتساءل فيه عن معايير، لأنها في هذه الأوساط ستغدو غير محقة وباطلة.

الهوامش:

(2) نفس السابق ص56.

(3) نفس السابق ص54.