تجربة علي الدميني من منظور ثقافي

0
38

رغم أنّ كتاب علي الدميني: “أمام مرآة محمد العلي” مخصص للتجربة الإبداعية والكتابية لمحمد العلي، إلا أنه يشكل مرجعاً جديراً بالعودة إليه عند كتابة بدايات الحداثة الأدبية والمجتمعية في السعودية، لأن الدميني بما يملك من رؤية معرفية واسعة يتقصى أوجه هذه الحداثة من خلال تتبعه الدقيق والتفصيلي لتجربة محمد العلي، مصادرها وتحوّلاتها وتأثيراتها على مجايليه وعلى الجيل اللاحق من أدباء وكتاب المملكة العربية السّعوديّة، وخصص الدميني في الكتاب الواقع في سبعة أبواب باباً بعنوان: “محمد العلي والحداثة”، ممهداً الحديث عن هذا الجانب بعرض مهم عن مأزق التسميات وتعارضاتها حين بحث الحداثة في مجتمع كالمجتمع السعودي.


أردتُ الوقوف عند ذلك، لأن علي الدميني في تناوله هذا تحاشى المنزلق الذي وقع فيه آخرون حين حصروا حديثهم عن الحداثة في الجانب الأدبي، بالتركيز على التجارب الشعرية والسردية والدراسات النقدية، لينظر إلى هذه الحداثة بوصفها مشروعاً فكرياً وسياسّياً واقتصادياً واجتماعياً، اشتمل في حركته على قيم التنوير كالعقلانية وحرية الفكر والضمير والتفكير والإبداع والتقدم وقيم العدالة الاجتماعية، والمساواة، والرفع من مكانة المرأة.

لا يصحّ، بطبيعة الحال، التقليل من أهمية الحداثة الأدبية والانفتاح على المدارس والمناهج والتجارب الجديدة في دنيا الأدب، ويحدث كثيراً، وربما غالباً، أن تسبق الحداثة الأدبية أوجه الحداثة الأخرى، ولكن علينا أن نقرأ ذلك في سياق تحوّلات أشمل، اجتماعية وسياسية وفكرية، وربما نرى في تلك الحداثة الأدبية علامة على جاهزية المجتمع المعني لفكرة الحداثة عامة، وهذا ما نحسب أن علي الدميني، ومثله في ذلك مثقفين آخرين في السعودية والمنطقة، كانوا واعين له، وأشار الدميني إلى ذلك حين قال إن المعركة بين الحداثيين وخصومهم لم تكن محصورة باجتراح الحداثيين لقصيدة النثر أو التفعيلة، فما قوالب الشعر الحديثة إلا مجرد واجهة للانفتاح على العالم والانعتاق من الثقافة السائدة، لكن “مشوار الحداثة في الأدب والشعر في بلادنا تحديداً، حسب قوله، لا يمكن له أن ينجز مشروعه الحداثي الحلمي إلا حين تتكامل للمجتمع كل مقوّمات تبنّي قيم وآليات تحقيق زمن الحداثة، في أبعادها الحياتية المختلفة. ولذلك؛ يأخذ الشعر وبقية الفنون الأخرى في بلادنا دوراً تنويرياً ونهضوياً وفنياً مهماً في هذا السياق وهذه المرحلة.”

وبتقديره فإن “الحداثة وفق قيمها الناظمة لسيادة العقلانية والحرية والديمقراطية وتحرير الكينونة الذاتية والإبداعية من أحمال الإرث والعادات والنمط والقهر الاجتماعي والسياسي، لا تتحقق بشكل عام إلا ضمن منظومة من التفاعلات الجدلية والتكاملية بين المكوّن الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي لأي مجتمع، وليست مقتصرة على الفكر والآداب والفنون فقط، وإن كانت هذه الأخيرة تحتفظ بخصوصية واستقلالية مختلفة”، اي أن فقيدنا الكبير لك يكن مأخوذاً بنظرية الانعكاس في معناها الضيق والجامد التي ترى الأدب مجرد انعكاس ميكانيكي للواقع الذي انتج فيه، وتنزع عن هذا الأدب خصوصيته، وتنكر عليه فضائه المستقل، ولو نسبياً.

وعلى صلة بذلك قال فقيدنا الكبير في حوار أجراه معه الأستاذ ميزا الخويلدي إن الشاعر الحداثي لا بد أن يكون حداثياً في ثقافته وفكره ورؤيته وموقفه، وفي مسيرته الحياتية اليومية في مجتمعه. وفي سيرة الدميني الآتي من ريف الباحة الجنوبي في المملكة العربية السعودية إلى الظهران على ساحل الخليج العربي في عام 1968، تتجسد سيرة المبدع والانسان الحداثي المشتبك مع قضايا ناسه ووطنه وأمته، بكل صدق وإيثاروتفانٍ، وهو القائل «ولي وطنٌ قاسَمتهُ فتنة الهوى، ونافحتُ عن بطحائه من يقاتلُه».


وقد شرح علي الدميني موقفه هذا بالقول: “يلهمني ضميري الثقافي ومسؤوليتي الشخصية عن إنسانيتي، خصيصة التفاعل الصادق مع القضايا الإنسانيّة والوطنيّة والقوميّة، وأرى ذلك عنصر إثراء لرؤية النص واستراتيجية خطابه. ولكن مختبري الشعري الخاص لا ينحاز إلى إنتاج القصيدة المباشرة أو الشعارية، وإنما يعمل على إبداع رؤية نص يسرّب دلالاته الثقافية في نسيج جمالي، يتوسل الإيجاز والإلماح، والإحالة الرمزية إلى ما يقع خارجه من تلك المكونات، دون أن يذهب إلى التقريرية المباشرة.

وكمن لا يرى أي تناقض أو تضارب بين موقفه الملتزم في الحياة، وانحيازاته السياسية والفكرية من جهة وتجربته الشعرية والأدبية من جهة أخرى، فإنه يؤكد أن مسارات حياته الشخصية والوجدانية والاجتماعية والسياسية قد أسهمت كثيراً في تشييد معمار تجربته الشعرية؛ لأن نهر الشعر المقدّس يعْبُرُ دائماً على جسر مصاهر التفاعل مع حمولات الأحلام والآمال والآلام جميعاً، ومع إدراكه بان الاهتمام بالشأن العام، وفي جانبه السياسي تحديداً، بقدر ما يضيف للتجربة من أبعاد ومحفزات مهمة، إلا أنه يستنزف جزءاً مهماً من زمن الشاعر، الذي كان يحتاج إليه للتركيز على الشعر وتطوير الشعرية. وقد يعمل ذلك الاهتمام على رفع وتيرة نبرة المباشرة في خطاب الشعر، وهو ما حرص على تجاوزه باستمرار.


وعلي الدميني حداثي ليس فقط لأنه كتب شعراً حديثاً في الشكل والمحتوى، وإنما وظف كل ما ما أمتلكه من قدرات وما اجترحه من أدوات واسسه من منابر للانتصار لفكرة الحداثة والإعلاء من شأنها، أكان ذلك من خلال كتاباته في الصحافة السعودية أو اشرافه على ملحق “المربد” الأدبي والثقافي في جريدة “اليوم” الذي جعل منه منصة ثقافية وفكرية حداثية فاعلة ومؤثرة رغم صعوبة الظروف في تلك المرحلة، ومع ان “المربد” لم يكن هو المنبر النشط الوحيد في مرحلته، كما قال أبوعادل نفسه، لكنه اختط  في “المربد” طريقاُ واضحة المعالم تهدف إلى تشجيع حركة الحداثة الأدبية وقيمها الثقافية المتعددة رؤية وتشكيلاً، وإبراز الأصوات المعبّرة عن تلك القيم واستهدافاتها بقدر الإمكان. 

بالإضافة إلى “المربد” ساهم الراحل بفعالية في تأسيس مجلة “النص الجديد” التي عرفت باحتضانها للتجارب الحديثة واحتوت على تجارب ونصوص حداثية. وعمل على تحويل “النص الجديد” من مشرع فردي طرحه الأستاذ عبد الله الخشرمي، ليصدر من قبرص، إلى فكرة منبر ثقافي وإبداعي شارك في تأسيسه أبرز أدباء السعودية، ليكون مظلة لفعالياتهم النقدية والفكرية والإبداعية، وكان له الدور المحوري في استمرارها خلال ثمانية أعوام، ولم تذهب هذه الجهود التي كان هو أحد أبرز رموها سدى. وهذا ما يؤكده أبو عادل نفسه حين قال: “إن مشروع الحداثة الأدبية والفنية في بلادنا قد تغلّب على كل العنف المضاد له من الجهات كافة واستطاع أن يرسم لوحة مشرقة نعتز بها: في النقد الأدبي والشعر والسرد والتشكيل والمسرح التجريبي والسينما الجديدة، رغم كل العقبات!”.


وعلي الدميني الإنسان الطيب دمث الأخلاق والمتواضع في الحياة كان كذلك في الأدب، فعلى أهمية تجربته الشعرية والأدبية التي نعرف، فإنه قال: “إذا أتينا إلى حقل الشعر تحديداً، فإنني أعد نفسي غصناً في شجرة التجديد والرنو إلى الحرية والحداثة في العالم كله، مثلما أراني في بلادنا واحداً ممن مضوا في هذا الدرب الطويل، الذي امتد من محمد حسن عوّاد إلى حسن القرشي وغازي القصيبي إلى محمد العلي، وتأتي ضمن هذا السياق أسماء كثيرة جداً، وبخاصة في الحقل السياسي، إلى جانب شخصيات بارزة في حقول الأدب والفكر الاجتماعي والإبداع، من أمثال عبد الله عبد الجبار، وحمزة شحاتة، وعبد الله القصيمي، وأحمد سباعي وعبد الكريم الجهيمان، وغيرهم. وجيلي الذي أنتمي له”، معدداً بعض أسماء هذا الجيل ومن تلاهم، مثل فوزية أبو خالد، وأحمد الملا، وجاسم الصحيح وعلي الحازمي، وسواهم.

غادرنا علي الدميني في وضع عربي صعب ومعقد نحن شهود عليه، حيث انهارت أو تضعضعت الدولة الوطنية في بلدان عربية مفصلية، وتشهد الهويات الفرعية انفجارات غير مسبوقة على حساب الهويات الوطنية الجامعة، ولكنه لم يفقد الأمل أبداً، قائلاً إنه رغم كل تلك الكوارث فإنه متفائل!