جوانب مضيئة في شخصية إبراهيم ديتو

0
51

في البداية نودّ، نحن عائلة المرحوم ابراهيم جمعة ديتو، أن نتقدم لكم بجزيل الشكر والعرفان على تنظيمكم لهذه الفعالية التأبينية بمناسبة أربعينية وفاة فقيد ورب أسرتنا الغالي “بومحمد” … نشكر قيادة وأعضاء المنبر التقدمي على وفائهم وإخلاصهم لذكرى المناضلين من أجل حرية وتقدم وطننا الغالي، والذي يشرفنا أن يكون الراحل “أبو محمد” أحد طلائع تلك الكوكبة التي ناضلت وقدّمت تضحياتها من أجل مبادئها السامية في ظروف صعبة ومعقدة، خاصة في الخمسينات وستينيات القرن الماضي.

لا يمكننا الإحاطة في هذه المناسبة، وفي هذه الكلمة الموجزة، بكل جوانب شخصية المرحوم الغنية والمتعددة الجوانب، فحديث الذكريات الحميمة المرتبطة بتجربة العيش والتواصل مع ابراهيم ديتو حديث لا ينتهي، ولا يمكن حصره في مناسبة معينة فقط، بل هو حديث سيستمر ويتدفق دائما بشجون الحب والوفاء للراحل، وباستخلاص العبر والدروس من مسيرة حياته الحافلة بالعطاء والتضحيات.

 إذا كان لرفاق دربه النضالي، وللمتحدثين عن ذكرياتهم مع الفقيد محطات ومواقف ولحظات عايشوها عن قرب، وبتفاصيل تتعلق بنشاطه السياسي، فأسمحوا لنا بالتركيز في كلمتنا الموجزة هذه على إبراز أبعاد وجوانب شخصية مضيئة في تأثير والدنا المرحوم علينا كأسرة منذ مطلع الستينات، حيث تزامنت سنوات ولادتنا مع انشغاله النضالي بتفانٍ واخلاص من أجل حرية وكرامة وطننا وشعبنا. كان مناضلا ضد هيمنة الاستعمار البريطاني وتحكمّه في شؤون بلادنا. كان مناضلا من أجل حقوق العمال والكادحين من أبناء شعبنا، يحلم ويطمح مع رفاقه في تحقيق التقدم الاجتماعي لمجتمعه بعيداً عن الظلم والاستغلال والتفرقة بكافة أنواعها.

 كل اعتقال كان يسبق أو يعقب ولادة أحد منا: في عام 1962، في 1965، 1968. كل فرد في أسرتنا يحمل علامة مميزة في سجل ذاكرته مرتبطة بالوالد رحمه الله، ولعل تجربة اعتقال أبي في 1965 واقتحام منزلنا في أم الحصم وتعرّضه للاعتداء من قبل ضابط الأمن آنذاك، هي أقساها وأكثرها رسوخاً في ذاكرتنا.. قسوة تجارب الاعتقال المتكررة لم تكسر عزيمته وتفاؤله ولم تثنيه عن مواصلة نضاله. لا زالت ملامح ابتسامته وفرحته بلقاء أطفاله في كل زيارة له في المعتقل علامة حاضرة ومضيئة في ذاكرة الأسرة.  

بعد نفيه إلى الكويت في أواخر الستينات التحقت أسرتنا (والدتي وأخواتي “منى” و”هدى” و”ندى” وأنا) بالوالد الذي عمل في البداية في شركة النفط الإسبانية وبعدها في قسم الجيولوجيا بجامعة الكويت بوظيفة رسام هندسي، ولاحقاً في أواخر السبعينات التحق بالعمل بشركة نفط الكويت. كان المرحوم مهنيا يعشق عمله، ومتفانيا في أداء المهمات التي يكلف بها، واشتهر عنه بأنه لم يتوان عن مساعدة زملاء عمله حتى لو كان ذلك خارج مسئولياته، مما أكسبه محبة واحترام كل من عمل معهم سواء كانوا زملاء أو رؤساء له. .. تعلمنا منه الإخلاص في أداء مهمات العمل، والسعي المستمر لتطوير المعارف والمهارات، والشغف بمعرفة كل ما يستجد من تطورات في المهنة، وساهم كل ذلك في عملنا، نحن أبنائه وبناته في مختلف محطات مسيرتنا المهنية .. كان يفرح ويعتز بأي نجاح نحققه في عملنا، ويلهمنا ويشجعنا على الاستمرار في تطوير أنفسنا.

عشنا عقد السبعينات في الكويت معا كأسرة متراصة، وانضم إلينا عضو جديد في 1975: أخي فهد. كان أبي رحمه الله رب الأسرة ومعيلها، ولكنه كان أيضا ملهمها وروح حياتها اليومي بجانب والدتنا الغالية “أم محمد”. ألهمنا الراحل قيماً ومبادئ منذ نعومة أظافرنا؛ قيما انسانية تمثلت في الانفتاح ومحبة مختلف الشعوب والثقافات بلا تمييز. كانت مبادئ العدالة الاجتماعية، حرية وكرامة الإنسان، التضامن مع كفاح مختلف شعوب العالم ضد الاستعمار والظلم، والاسترشاد بأفكار الاشتراكية العلمية، جميعها مبادئ أثّرت عميقاً في وجداننا وشخصياتنا منذ نعومة أظفارنا وكل ذلك كان ممكناً بفضل مثال وقدوة “أبو محمد” والبيئة التي أوجدها في منزلنا الصغير، بشبكة علاقاتها الإنسانية النقيّة الثريّة. 

نتذكر المرحوم الغالي بعرفان وحب، خاصة عندما نتذكر الأجواء الحميمية التي كانت تسود أثناء لقاء الرفاق وزياراتهم المتكررة لشقتنا الصغيرة آنذاك، وما كان لهذه اللقاءات أن تكون لولا “أبو محمد “، وحبه ووفائه لرفاقه وقضية نضالهم جميعا من أجل “وطن حر وشعب سعيد “. لم يفرض أبي علينا قناعاته السياسية أو الفكرية، بل “تحاور” معنا وأقنعنا بمنطقه وأسلوبه العقلاني الهادئ. كانت لديه قدرة مميزة في تبسيط الأمور وعرضها بوضوح، وهي صفة اكتسبها، كما ذكر لنا لاحقاً، من عمله الجماهيري. 

لم تكن قناعاته السياسية منفصلة عن رؤيته الثقافية والجمالية للحياة، بل كانت منسجمة ومتكاملة معها. في شقتنا الصغيرة بحولي شارع تونس استمعنا لموسيقى “تشايكوفسكي” كما انبهرنا بعروض باليه “بحيرة البجع ” في مسرح الأندلس. قرأنا رواية ” الأم ” لمكسيم غوركي وروائع الأدب العربي والروسي والعالمي. كل ذلك كان يتم في نفس أجواء اهتمامنا بنضالات شعوب فلسطين وفيتنام وتشيلي وغيرها. كل ذلك كان ممكناً بفضل “أبو محمد” والبيئة الرحبة الإنسانية التي كوّنها في أسرتنا الصغيرة.

نعم، كل ما نحن عليه الآن من شخصيات وقيم يعود الفضل فيه الى “إبراهيم ديتو” رحمه الله، وإلى الغالية على قلوبنا، أطال الله في عمرها وأدام الصحة عليها والدتنا “أم محمد”، التي عايشت وتحملت كل مراحل وسنين المشقة وظروف اعتقالات أبي المتكررة، وصعوبات الغربة بعيدة عن أهلها ووطنها، وقامت بواجباتها المتعددة كزوجة، وأم، ومشاركة نشطة في مسيرة أبي الكفاحية، وقامت بكل ذلك بتواضع وصفاء نفس ووفاء نادر. لم ولن نجد الكلمات التي تفي حقهما – أبو وأم محمد – وكل ما نسعى إليه هو نحيا ونعيش، ونربي أبنائنا وبناتنا، بنفس الروح الإنسانية التي غرسوها بتربيتهم ورعايتهم لنا.