سنوات إبراهيم ديتو في الكويت

0
86

في خريف العام 1974 كان ابن العمة العزيز والرفيق الكبير أبو غسان، عبدالله الراشد، مقيماً بصحبة أسرته في منزل والدي، الذي هو خاله، بمنطقة الرميثية في الكويت، وذلك بعد فترة من إطلاق سراحه من المعتقل في البحرين والضغط عليه لمغادرة وطنه، إن لم أقل ترحيله قسراً  إلى الخارج، وكان يعدّ العدة للسفر مع عائلته إلى لبنان والإقامة فيها، ومنها إلى بغداد ودمشق، حيث لم يعد إلى البحرين، حاله حال معظم المنفيين إلا في العام 1999، بعد ربع قرن من العيش في المنفى… وصادف وجود أبي غسان في الكويت حينذاك تحرك مجموعة من رفاقنا القياديين النقابيين العماليين والمثقفين الماركسيين الكويتيين لتأسيس الحزب السياسي المستقل للطبقة العاملة والفئات الشعبية، وبالتأكيد فقد كانت نصائح أبي غسان وتوجيهاته المستندة إلى خبرته العميقة والواسعة في العمل الحزبي والسياسي مفيدة لنا أيما فائدة في تجنّب الوقوع في أخطاء المحاولة.

 وقبيل مغادرته الكويت رتبّ أبو غسان لي علاقة منتظمة مع رفيقين كبيرين تعلمت منهما الكثير وشاركانا نضالنا وأمدّانا بالخبرة… الأول هو قائد جبهة التحرر الوطني في السعودية، قبل تحوّلها لاحقاً إلى الحزب الشيوعي، الرفيق أبو عمر، مصطفى حافظ وهبة، المقيم قسراً في الكويت بعد إبعاده من السعودية، فالكويت هي موطن والدته ولعله ولد فيها بداية عشرينيات القرن العشرين، حيث يبلغ من العمر الآن أكثر من مئة عام، متعّه الله بالصحة والعافية… والآخر هو الرفيق الراحل أبو محمد، إبراهيم جمعة ديتو، أحد مؤسسي جبهة التحرير الوطني، المقيم في الكويت بعد نفيه إليها هو ورفاق آخرين بعد إطلاق سراحهم عقب اعتقالهم ضمن حملة اعتقالات العام 1968 التي استهدفت الجبهة.

ومنذ ذلك اليوم بدأت علاقتي الرفاقية المباشرة مع المرحوم الرفيق إبراهيم ديتو، وإن كنت قد عرفته قبل ذلك بسنوات والتقيته بشكل عابر من خلال رفاق وأصدقاء مشتركين مثل الرفيق الراحل محمد السيد، عندما كان مقيماً بالكويت ويتولى السكرتارية التنفيذية للاتحاد العام لعمال الكويت، والصديق البحريني – الكويتي الراحل أحمد سند، وزميله في العمل الصديق الكويتي الراحل محمد القريشي.

وبدءاً من خريف العام 1974 أصبح الرفاق البحرينيون المقيمون في الكويت مثل أبي محمد ورفيقيه موسى داود ومحمد عبدالرحمن ينشطون معنا كما لو كنا أعضاء تنظيم واحد، ونشأت علاقات رفقة وصداقة شخصية وعائلية وطيدة بيننا، نلتقي ونتداول في الشؤون الوطنية العامة والشؤون العربية والدولية، ونتسقّط أخبار البحرين بعد تعطيل الحياة النيابية وفي عهد قانون أمن الدولة سيئ الذكر، حيث لم يكن من السهل حينذاك متابعة ما يجري من تطورات وأحداث واعتقالات ومحاكمات وأحكام قاسية وإفراجات إلا عن طريق السفر والتواصل المباشر ونقل الرسائل الشفوية أو المكتوبة التي يحملها المسافرون الموثوقون، وهو أمر لم يكن متاحاً للرفاق المبعدين عن البحرين، ناهيك عن أنّ الجسر لم يكن قد أنشئ بعد، فلم يكن هناك من سبيل للسفر بين الكويت والبحرين غير طريق السفر جواً، ولم تكن وسائل التواصل الإلكترونية الحالية متاحة، فيما كانت الرقابة مشددة على الاتصالات الهاتفية والرسائل البريدية، هذا غير الرقابة الأمنية المفروضة على الرفاق القياديين المكشوفين.

وكانت أمامنا مهمتان: الأولى هي تأمين الاتصالات بين التنظيم في الداخل والرفاق في الخارج، والأخرى هي نقل كميات من النشرات والكتيبات، وعلى نحو خاص مجلة “النضال” و نشرة “الفجر” اللتين كانت تصدرهما الجبهة وتطبعهما في الخارج، وايصالهما إلى داخل البحرين بطرق مأمونة.

وكنتُ مع الرفيق إبراهيم ديتو المكلفين بهاتين المهمتين في الكويت، وهنا أشير إلى أن نجاحنا في تأديتهما إنما اعتمد بشكل أساسي على عاملين رئيسيين، يتمثّلان في الخبرات المتراكمة للرفيق إبراهيم في تكنيك العمل السري، وما يتميز به من مهارات فنية وإتقان محترف في التجهيز والتعبئة والتغليف للحقائب ثنائية القعر من جهة، والدور الشجاع من جهة أخرى لرفاق كويتيين وبحرينيين وغيرهم، كانوا يخاطرون بأنفسهم وهم ينقلون الرسائل والمطبوعات، ومنهم من تعرض للاعتقال والمحاكمة والسجن والإبعاد عن البحرين في صيف العام 1979 ما اضطرنا إلى التوقف مؤقتاً عن إرسال المطبوعات والاكتفاء بنقل الرسائل.

ومن الطرائف التي كانت تتعلق بالاتصالات في ذلك الوقت أن الرفيقة العزيزة فاطمة أم محمد أرملة رفيقنا الراحل إبراهيم أوصت الرفيقة شيخة أم ثامر زوجة الرفيق موسى داود بأن تتابع عند سفرها إلى البحرين في إجازة قصيرة أخبار المعتقلين هناك، وصادف وقتها أن تمّ الإفراج عن خمسة عشر معتقلاً بمناسبة العيد، وكانت هناك أخبار عن احتمال الإفراج عن عشرة معتقلين بعد نحو شهر بمناسبة العيد الوطني، فلجأت الرفيقة شيخة إلى استخدام الشفرة في الاتصال الهاتفي تجنباً للرقابة، حيث أبلغت الرفيقة فاطمة بأن “سنورتنا ولدت خمستعش جرو، وبعد شهر بتولد عشرة جراوة”… فيالها من شفرة طريفة، كثيراً ما كنا نرددها من باب التندر عندما نلتقي!

لقد كنا نتواصل كرفاق وأصدقاء، وكم مرة أقمنا احتفالات مصغرة في المناسبات الأثيرة مثل ذكرى تأسيس جبهة التحرير في منتصف فبراير، وأذكر واحداً من تلك الاحتفالات، وهو الاحتفال بالذكرى الرابعة والعشرين، الذي أقمناه في مخيم بالبر، وشاركنا فيه النائب الحالي الأستاذ يوسف زينل خلال مروره على الكويت، وكذلك الاحتفال بفوز النائب الكويتي الدكتور أحمد الربعي في انتخابات فبراير من العام 1985، كما أذكر الأمسيات والسهرات العائلية الجميلة التي كان يقيمها الرفيق إبراهيم وأسرته خلال النصف الثاني من عقد السبعينات في شقتهم المتواضعة الواقعة في بناية الجودر على شارع متفرع من شارع تونس، وهو الشارع الرئيسي بمنطقة حولي، وكان ابنه محمد يطربنا بمقطوعة “مروا على البال عصرية” التي يؤديها على آلة الأكورديون، وكذلك الأمسيات اللطيفة التي أمضيناها في شقتهم الواسعة نسبياً في عمارات الورثة بالفحيحيل جنوبي الكويت، التي انتقل إليها في بداية الثمانينات، عندما كانت ابنته ندى أم أحمد تشدو بصوتها الشجي الأغنية الفارسية “مرا ببوس”، وبعدها تلك الجلسات الودودة في منزله الرحب بمدينة الأحمدي الذي انتقل إليه عندما كان يعمل في شركة نفط الكويت، والخيمة المنصوبة في ساحته، التي كانت تشع دفئاً وحميمية.

لقد تميّز الرفيق الراحل إبراهيم ديتو بشخصية ودودة وقدرة خارقة على إقامة العلاقات مع الناس ببساطة، وكان محيط صداقاته ومعارفه متنوعاً وواسعاً… ومنذ بداية الثمانينات توطدت علاقاته مع العديد من رفاقنا، بمن فيهم الشباب، ولم تكن صدفة أن اثنين من أصهاره كانا من رفاقنا الكويتيين.

استذكر ذلك ونحن نحيي ذكرى رفيقنا الراحل العزيز وصديقي الكبير إبراهيم ديتو، الذي كان بحق مناضلاً متفانياً يكره الادعاء ولا يحب البروز، والأهم من ذلك أنه كان إنساناً رائعاً كريماً مخلصاً متواضعاً بسيطاً ودوداً محباً جاداً وطيباً، بما تعنيه كل هذه الكلمات من دلالات. فله الذكرى الطيبة.