سكيولوجيا التّحكم في الفكر وتشويه العقل وغسل الدّماغ
استكمالًا لمقال سابق ومعنون ب: “هل تنبأ جورج أورويل بعالم التكنولوجيا”؟، نتناول هنا كتاباً قيّماً ومهماً للدكتور جوست إبراهام ميرلو عالم النفس الأمريكي من أصول هولندية، عنوانه: “اغتصاب العقل.. سكيولوجيا التحكم في الفكر وتشويه العقل وغسل الدماغ”، بدا فيه وكأنه يشرح رواية جورج أورويل (1984) وبطريقة علمية؛ إذ ذهب المؤلف أبعد من ذلك بصفته متخصصاً في هذا المجال وعالج الكثير من ضحايا الحرب العالمية الثانية الواقعين تحت الآسر، وكيف أن الدعاية الفاشية نزعت منهم كل ما علق بتفكيرهم وغسلت أدمغتهم، وشوهت عقولهم، وقتلت روحهم المعنوية، ليصبح العقل البشري فريسة للقوى الديكتاتورية والاستبدادية.
هذا التشويه المتعمد وغسيل الدماغ نجد له صداه في رواية جورج أورويل، حيث أن وزارة الحقيقة قلبت المفاهيم وحوّرت الشعارات ليصبح السلام هو الحرب، الديمقراطية هي الطغيان، والحريّة عبودية، الجهل هو القوة، الفضيلة هي الرذيلة، والحقيقة مجرد كذبة، وأن الأكاذيب هناك تتزيا بزي الحقائق كما يقول أورويل، ويضيف: “فوزارة السلام تعنى بشؤون الحرب، ووزارة الحقيقة مهمتها التزوير وخلق الأكاذيب، ووزارة الحب تسوم الناس العذاب، أما وزارة الوفرة فتعنى بتجويع الناس حتى الموت”.
لذا عندما أصبح المجتمع في قبضة الأكاذيب والرياء والخوف والإذلال، والخنوع، أصبح مجتمعًا منهكًا، متفككًا، الأب يخاف من أن يشي ابنه به، والزوج من امرأته، والصديق من صديقه أو زميله في العمل، عندها يصبح عامل الخوف والرهبة والقلق الدائم من المصير المجهول، وانعدام الأمن والأمان سائدا والكل يعيش في عزلة عن الآخر، فليس بمستطاعه الفرد تطوير أية صداقات، أو ولاءات، أو علاقات دافئة، لأنها قد تكون خطرة بالنسبة له، ومن الشك المستمر ليس فقط من الغرباء بل حتى من عائلته كما يخبرنا الدكتور جوست، ومطلوب من الكل أن يتماثل في كل شيء كما يقول أورويل: “هذا العصر الذي يعيش فيه الناس متشابهين، متناسخين، لا يختلف الواحد منهم عن الآخر، من عصر العزلة، من عصر الأخ الكبير من عصر التفكير المزدوج”.
عندها يلجأ الدكتاتوريون والاستبداديون لمزيد من تدجين المجتمع وترويضه لاستراتيجية تشويه العقل، وسلب كل أمل ممكن، وكذلك القضاء على كل التوقعات الممكنة، والاعتقاد في المستقبل، وتحويل العقل البشري إلى حالة من الاستعباد والاستسلام، وعندها الانسان يتعلم التكيف مع القيود الحالية، من خلال ربط علامات وإشارات الحياة بتفاعلات الجسم كما يذكر الدكتور جوست إبراهام في كتابه “اغتيال العقل”.
ومن هذا المنطلق لجأ جورج أورويل إلى أسلوب متميز لشرح فكرته عن المجتمع الشمولي بأسلوب محبب ساخر ينم عن مقدرة لا تضاهي في إيصال الفكرة ولكن بحيل فنية بارعة وبطرق لا تخطر على بال المتلقي، كل ذلك من خلال معايشة واقعية استلهمها عندما كان منخرطاً في مقاومة الفاشية في إسبانيا، ومن هنا نجد أيضا الدكتور جوست ابراهام استمد تجربته وأبحاثه من ذات المصدر، ولكن من خلال التجارب العملية والمختبرية ليصل كلاهما إلى نفس النتيجة وإن اختلفت الأساليب، جورج أورويل برع في إيصال رسالته من خلال رواية، بينما الدكتور جوست استخدم علمه ومشرطه الطبي في معالجة أحوال تلك المجتمعات الواقعة تحت سيطرة الأحزاب الشمولية والحكومات الاستبدادية.
وهنا يقول جورج أورويل: “إن الأطفال على الجانب الآخر كان يتمّ تحويلهم، وبطريقة ممنهجة، للعمل ضد آبائهم كما يدربون على التجسس عليهم والإبلاغ عن أي انحرافات تظهر. وهكذا أصبحت الأسرة امتدادا لشرطة الفكر، ووسيلة لضرب نوعٍ من الحصار حول كل فرد بواسطة عملاء يحصون عليه كل حركاته وسكناته ليلًا نهارًا”. فلعلّ ذلك يعيدنا إلى جمهورية الخوف في البلدان العربية حيث الكل يخاف من الكل، حتى الجار لا يأمن من جاره والأخ من أخيه وهكذا سجون متلاصقة، “سجان يمسك سجان”، كما يقول الشاعر العراقي مظفر النواب، ليكتب الدكتور جوست ميرلو: “أن النظام الاستبدادي هو أحد أكثر التشوهات العنيفة والمستمرة لنمو العقل البشري إذ لا يوجد غسيل دماغ ممكن، بدون وجود تفكير استبدادي.
وهكذا فإن الحقائق المأساوية للتجارب السياسية في عصرنا الحديث، تجعل من الواضح تماماً، أن التقنية النفسية والتطبيقية، يمكن أن تقوم بغسل أدمغة الأمم بأكملها، وتقليل قيمة مستوى مواطنيها إلى أن يصبحوا نوعا من الرجال الآليين (الروبوتات) الطائشة والذين يتأقلمون على طريقة عيش أقل من عادية.” فشعوب الأنظمة الاستبدادية يعيشون في سجون كبيرة ومستحيل عليهم أن يتحركوا يمنة ويسرى الا بأمر الأخ الأكبر أو قائد الضرورة، وإلا فالمصير معروف كما في لافتات الشاعر أحمد مطر إذ يقول: حبسوه قبل أن يتهموه/ عذبوه قبل أن يستجوبوه/ أطفأوا سيجارة في مقلتيه/ عرضوا بعض التصاوير عليه/ قل … لمن هذه الوجوه ؟/ قال لا أبصر/ قصوا شفتيه/ طلبوا منه اعترافاً/ حول من قد جندوه/ لم يقل شيئاً/ ولما عجزوا أن ينطقوه شنقوه/ بعد شهر برأوه/ أدركوا أن الفتى ليس/ هو المطلوب أصلا بل أخوه/ ومضوا نحو الأخ الثاني ولكن وجدوه/ ميتاً من شدة الحزن فلم يعتقلوه”.
هي تراجيديا واقع الشعوب الواقعة تحت الديكتاتورية والاستبداد والقهر والعسف والاضطهاد، شعوب غارقة في بحر من الآلام والمعاناة مع حكومات لا تعرف الرحمة والإنسانية مطلوب منها أن تهلل وتصفق للقائد المغوار وللحاكم الجبار الذي لا يشق له غبار، ليذكرنا جورج أوريل مرة أخرى “أنه يجدر بالمرء أن يعتبر نفسه جثة بلا روح منذ اللحظة التي يعلن فيها الحرب على الحزب.” فيجب أن يكون خارج دائرة تفكيرك أن تفكر في معارضة ما يملى عليك أو تنتقده أو أن حتى تهمس همسًا فمصيرك الهلاك حتمًا.
ينبهنا الدكتور جوست ميرلو أيضا “إلى أن النظم الشمولية والاستبدادية تُغيّر شعاراتها وسلوكها بين ليلة وضحاها إذا لزم الامر”، وعلى هذا الأساس نرى ذاك التلون كالحرباء في الشعارات والقفز يمينًا ويسارًا حسب مصلحة الدكتاتور وحزبه، فلا مشيئة للفرد داخل المجتمع ولا للمجتمع ذاته ولا إرادة لكليهما ولا مبرر للوجود الا التفكير داخل الصندوق، وكالقطيع يمشي ويتحرك بإرادة صاحب القرار وراعي مصالح الأمة، وهكذا كما يذكر ميرلو “لم يعد المواطن ضمن النظام الاستبدادي يعرف جوهر العقل الحقيقي ولم يعد يشعر بالأنا الذاتية ولا الآنا الشخصية، ولا حتى يشعر بنفسه ككائن بشري مستقل. فهو ليس أكثر من خزان معبأ بوابل الإعلام الرسمي، والإكراه العقلي.”
وتحت ضغطً الحياة وقسوة المعيشة والمراقبة الدائمة له يصبح الانسان مطواعاً، خانعًا وذليلًا، وعليه أن يتخلى عن شخصيته الفردية وليصبح التفكير والدماغ غير ضروري طالما هنالك من النخبة التي بإمكانها أن تفكر وتدير شؤون البلد نيابة عنه، فالإنسان كما يشرح لنا المؤلف، في ظل ذلك النظام: “يجب أن يسير دائما على الطريق المرسوم وضمن شكل التخطيط الرسمي ولذلك ، فهو دائماً، على وعي بالسيطرة والمراقبة، والتجسس والقوى المتخفية، والمتحفزة لأي أمر كان، والتي تكون على أهبة الاستعداد في انتظار مطاردته، والقبض عليه ومعاقبته.
ألا يحق لنا بعد كل ذلك أن نسأل كيف سيكون عليه شكل المجتمع والدول بعد التطورات الهائلة في التكنولوجيا وسيطرة قلة قليلة من أصحاب الشركات على مفاصل وأذرع الدولة في ظل المراقبة المستمرة على تحركات البشر، وإمكانية إخضاعهم وجعلهم كالقطيع يدور في فلك تلك القلة؟