كتبت جريدة واشنطن تايمز في مقال “الاشتراكية، هاورد زين وتاريخه المزيف” السؤال التالي: لماذا يكره الكثير من الشباب أمريكا، ويعتقدون أننا سنكون أفضل حالا كدولة اشتراكية؟ وجاء جواب كاتب المقال كالتالي: لقد سمعنا جميعا عن تأثير “الأخبار المزيفة”، ولكن هناك شيء أكثر خطورة: تدريس ” تاريخ مزيف”.
وكان كاتب المقال، روبرت نايت، يقصد بالتحديد الكتاب الشهير للبروفيسور هاورد زين ” التاريخ الشعبي للولايات المتحدة” لأن صياغة لغة الكتاب هي لغة الحرب الطبقية الماركسية حسب وصف كاتب المقال. ومن وجهة نظر الكاتب التقدمي الآن كرد فإن الحديث عن الصراع الطبقي في الولايات المتحدة يثير الكوابيس للإمبراطوريات الإعلامية الأمريكية. ولكن هنا ليس رأي الإعلام الرأسمالي الكبير فقط، فعندما كان دونالد ترامب في البيت الأبيض قبل سنوات، قال في أحد خطاباته:” يتلقى أطفالنا التعليم من المناهج الدعائية مثل تلك الخاصة بـ هاورد زين، التي تحاول جعل الطلاب يخجلون من تاريخهم الخاص”. وهذا ليس رأي ترامب فقط، بل رأي مختلف الإدارات الأمريكية بعد أن نجح البروفيسور هاورد زين خلال حياته من وضع أفكاره في المناهج التعليمية للعديد من المدارس والجامعات. ورغم أن زين توفي في العام 2010، تواصل أدوات الرأسمالية الأمريكية إطلاق النار على أعماله حتى اليوم.
يمكن القول إن البروفيسور هاورد زين من أفضل المؤرخين الأمريكيين في القرن العشرين إن لم يكن على رأسهم، ولكنه في الوقت نفسه مسرحي بارع، سليط اللسان، ليس من أجل الفن، وإنما ضد الحرب الإمبريالية وإبادة الشعوب. ومن أجل عالم أفضل. لقد كان سليط اللسان ضد ريغان عندما دعا الأخير نفسه بأنه معاد للشيوعية في الثمانينات، وكان سليط اللسان ضد الحرب في فيتنام وأمريكا اللاتينية والعراق، على سبيل المثال لا الحصر، وكسب بذلك عداء مختلف الإدارات الأمريكية، التي كانت تعترض على التزام زين مدى الحياة لتبديد الأساطير التي روجتها الدولة الرأسمالية الأمريكية على مر القرون حول أصوالها وعملياتها وأهدافها.
وكان قبيل وفاته يحذر من المؤامرات والسياسات التدميرية التي سينفذها باراك اوباما ضد الشعب الأمريكي وشعوب العالم. نشط زين في الحركات العمالية والاشتراكية والحركات المناهضة للحرب الإمبريالية في القرن العشرين. كان بروفسورا في عدة جامعات، وأفضل أعماله التاريخية هو كتاب “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة” الذي نشره عام 1980. يتحدث هذا الكتاب عن تاريخ الشعب الأمريكي منذ الغزو الوحشي لكولومبوس لهذه الأرض قبل قرون حتى تحولت الولايات المتحدة إلى بلد إمبريالي نهاية القرن التاسع عشر. ويرفض زين بشكل قاطع مناهج التعليم الأمريكية التي مازالت تقول إن كولومبوس هو مكتشف أمريكا. وعلى النقيض من ذلك، يصر زين أن كولومبوس غاز ومستعمر دموي ومجرم. ويعطي في كتابه نظرة عامة على قصة البلاد من وجهة نظر المظلومين. نجح زين ببراعة في تحقيق هدفه المعلن المتمثل في كشف كيف تطورت الولايات المتحدة لتصبح أكبر قوة قمعية في التاريخ، مستغلة بوحشية كبيرة، سكانها وسكان العديد من البلدان الأخرى.
ناهض زين بقوة تزوير التاريخ على يد الرأسماليين، ووقف ضد المناهج التعليمية الأمريكية، معلنا المعركة من أجل مناهج التعليم الجديدة، المعركة التي لم تنجز أهدافها حتى هذه اللحظة، ولكنها سارت بتأثير ملحوظ منذ عقود في عدد من المدارس والجامعات الأمريكية. أول ما حاربه المؤرخ المسرحي هو تدجين الأطفال من خلال المناهج الأمريكية الرسمية التي تربي الطفل على تعهدات الولاء والأناشيد الحربية العدوانية التي سميت زورا أناشيد وطنية. ووضع زين أولى خطوط المناهج التي تفضح الإمبريالية الأمريكية. ورحل عن العالم تاركا معركة التعليم والتاريخ عند هذا المستوى. أمضي زين عشرين عاما في تأليف كتابه ” القرن العشرين” وخصص هذا الكتاب عن التاريخ الأمريكي بين تحول الولايات المتحدة إلى إمبريالية في العام 1890 حتى غزو العراق عام 2003. وهي الفترة التي تكاد تخلو من سنة سلام. إذ غزت الولايات المتحدة مختلف الشعوب مستخدمة الذرائع والحجج. وفضح أيضا خدعة مشاركة الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى والثانية من أجل حصد نتائجها ومنع الآخرين من ذلك.
كما فضح الدور الأمريكي في دعم الفاشية الألمانية واليابانية في ثلاثينات القرن الماضي. كانت اطروحة الدراسات العليا التي قدمها زين في مجال التاريخ عن حركة عمال المناجم في كولورادو. وكانت أول وظيفة له في كلية للنساء السود في جورجيا. لذلك كان قريبا من القاع الأمريكي الأشد اضطهادا واستغلالا، مبتعداً بذلك عن درب الأكاديميين التقليديين، ودخل في صراع قاس مع السلطات أثناء حركة الحقوق المدنية والحركات العمالية، وكان ينشئ التنظيمات الطلابية في الكليات التي يدرس فيها مما جعل السلطات تفصله عن العمل عام1963. وكان يدعو طلابه إلى عقد الاجتماعات وتأسيس المنظمات كجزء من واجباتهم المدرسية.
وبعد سنوات، عاد للتدريس في جامعة بوسطن وكانت محاضراته تستقطب ناشطي الحركات الاجتماعية في الستينات والسبعينات حتى تقاعده عام 1988. كان يقول للطلاب: لا يمكنكم أن تكونوا محايدين في قطار متحرك. وظهر بشكل متكرر في المظاهرات وخطوط الإضراب وقاعات المحاضرات. لم يعش زين ليرى ثورة اشتراكية في أمريكا. ومع ذلك، لم يفقد الأمل أبدا في أن يعيش طلابه لرؤيتها، وكان سعيداً بأن يكون جزءا من أعمال المقاومة في كل مناسبة. وكتب ذات مرة: المستقبل هو سلسلة لا حصر لها من الهدايا، والعيش الآن كما نعتقد أن البشر يجب أن يعيشوا، في تحد لكل ما هو سيئ من حولنا، وهو في حدّ ذاته انتصار رائع.
About the author
كاتب بحريني وعضو التقدمي