العصمة في يد الجمهور

0
136

يستلزم حضور العرض المسرحي، والاستمتاع به، عوامل مختلفة تعود لذائقة المتلقي ومزاجه في المشاهدة. وسواء كانت الرؤية بعيون متفرج دفع ثمن تذكرته، أو بعيون ناقد مترصد – وكلاهما متلقٍّ – ستكون في الاعتبار موازنة العناصر الفنية التي تعجبهما وتروق لذوقهما المسرحي.

والعرض المسرحي معروف شكله؛ حدث يروى برؤية المخرج وحسب النص، وممثلون فاعلون مع العناصر المسرحية الأخرى. لكن حينما يقدّم عرض ارتجال بالكامل على خشبة المسرح، دون نص مكتوب، أو شكل معين متفق عليه مسبقاً، فعلامَ سيكون حكم المتلقي؟ وكيف سيستشعر متعته في المشاهدة، وليس هناك ما يبني عليه؟ وهل عروض الارتجال يجب أن تكون كوميدية، أم أن ما يحصل فيها من بهجة وضحك عائد لسرعة بديهة الممثلين وقوة استجابتهم؟ أسئلة كثيرة تطرحها مفردة الارتجال، وما لها من تبعات متداخلة مع مسألة المتعة والفكر في الفن.

في تجربة جديدة في البحرين، نشأت “ارتجاليا”، وهي فرقة مسرحية تأسست في جمهورية مصر العربية قبل سنوات، ولقيت قبولاً وحضوراً جيديْن، جعل من سرعة حجز مقعد في عروضها أمراً ضرورياً للمشاهدة، خصوصاً أنها ليلة عرض وحيدة، وغير محددة المواعيد، إلا قبلها بأيام، مع جمهور مختلف عن جمهور المسرح المعتاد؛ مستعد أغلبه للصعود على المسرح متى ما استدعى الأمر وطُلب منه ذلك، في حالة من الحميمية غير المفهومة لأفراد قد يرون بعضهم لأول مرة، وقد لا يلتقون بعدها.

ربما قربتهم فكرة أن العرض حي، ويتفاعل مع الحضور، بل ويعتبرهم جزءاً أصيلاً منه، ربما هو الجزء المختبئ في جميعنا؛ بأن نكون نجوماً تسلَّط علينا الأضواء، حتى ولو لفترة محدودة جداً من الزمن! أو ذاك الحس المختلف الذي يجعل المتفرج مساهماً، وصوته مسموعاً ومنفذاً. فحين طلب المخرج أحمد خليفة مدَّ فريقه المستعد باقتراحات أو أفكار للممثلين، بصيغ تعبير تخطر في ذهنهم، مثل شرح كتاب من خيال أحد جمهور الحاضرين، وقد رمى عنواناً فنتازياً: “هتلر والرقص الشرقي”! وعلى الممثلين أن يؤلِّفوا – في كلمات متقطعة – تصوراً محتملاً لقصة هذا الكتاب، مكونين بها جملاً مفيدة وفكاهية، نظراً لعدم منطقيتها. فالفكرة نابعة من الغرابة أساساً. لذا، فكل ما يأتي بعد ذلك مقبول.

وهذه اللعبة المسرحية تأتي ضمن مجموعة ألعاب/ تمرينات في ورشة الإبداع المفتوحة التي يمنحها هذا النوع من الأداء. وتعتمد “ارتجاليا”، التي أسسها منذ سنوات في القاهرة المخرج رمزي لينر، على مجموعة أشكال – متغيرة – لمواقف تقوم في الأساس على ما يجود به إبداع الممثل؛ من افتعال المواقف والأحداث من العدم، ودون اتفاق أو تحضير مسبق. وتلقى هذه العروض صدى واسعاً من التفاعل بين الممثلين والجمهور. وحتى لو تكررت في هيكلها الخارجي، فالمحتوى سيتغير في كل مرة بطريقة مدهشة.

ونتيجة لنجاح هذه التجربة، من هذا المنطلق المختلف عن كون الجمهور متلقياً سلبياً أو صامتاً -على سبيل الدقة-، انطلقت “ارتجاليا البحرين” عبر مجموعة محبة للفن والمسرح، وقدمت أول عروضها التجريبية قبل عام من الآن، أثبتت انطلاقتها أن المشروع مختلف – أولاً – عمّا اعتاد عليه محبو المسرح، ولكنه موافق لرغبات العديد، حتى ممن لا يطمحون في اعتلاء خشبة المسرح يوماً ما. لكن طالما الأمر متاح، لِمَ لا؟

وبالإضافة إلى كون التمثيل متنفساً حراً للممثلين أنفسهم، فمن المتوقع أن يمرّ بقية الحضور – من المتلقين – بنفس الشعور، حيث اختبار نباهة الممثلين، ومساحة التخيّل التي تشمل الممثل والمتلقي في ذات الوقت. غير أن الأول عليه عبء إنجاح العرض؛ عبر التفاعل الذكي والسريع مع زملائه. وعلى الخشبة، تتوضح بسلاسة قدرات الممثل الذهنية والجسمانية، وأيضاً علاقته بالآخرين ممن يشاركونه الخشبة، ومن يتفاعلون معه من الجمهور. هناك الممثل “الخبرة”، والذي يخبئ قلقه في زاوية غير مرئية، ويمضي دون قلق من فشل، لأن كل العرض لعبة مشتركة. وهناك الواعي، الذي يعرف الخطوط الأساسية، فيضعها في الاعتبار في كل أدائه، وقدرته تقوى مرة بعد الأخرى.

عدا أن للارتجال أهمية كبيرة تجعله مادة أساسية في تدريس الفنون المسرحية، كونه يصب في تدريب وتأهيل الممثل لبناء شخصيته الفنية، وتفقُّد مواقع الضعف قبل القوة فيه، وبناءً عليه يستوجب أن تكون هناك موهبة واستعداد للتعلم، وليس قراراً بأن يخوض مجال التمثيل وحسب. ربما لهذا عمد هذا الفريق إلى بث مقاطع صغيرة على اليوتيوب، توثق التجارب التي عملت عليها الفرقة، في تطبيق عملي للمنهج الذي أسسه لينر، وتستخدمه ارتجاليا البحرين عبر المخرج خليفة. وتبين هذه المقاطع أيضاً قواعد الارتجال، مثل: توضيح الواضح/ لا تتمسك بفكرتك العظيمة!/ لا تخف من الفشل/ الصمت/ الموافقة/ لا تسأل أسئلة/ ساعد زميلك ليبني/ وغيرها، وهذا يشرح آلية العمل التي يحتاجها للممارسة العملية، أو من يسعى للاطلاع والتعلم، وفيهم تقنية عمل الممثل.

وحتى نُعيد “ارتجاليا” المكتوبة بالجيم المصرية -حسب الإملاء باللغة الإنجليزية- إلى تعريفها الأولي في العلوم اللغوية -حسب معجم اللغة العربية المعاصرة-: هو اختراع؛ كأنْ تصدر عن المتكلم كلمة جديدة في معناها، أو في صورتها. وقد يقصد به الاشتقاق الذي يولِّد لنا صيغة من مادَّة معروفة، وعلى نسق صيغ مألوفة في موادّ أخرى، وتجسيد مادي لفكرة فنية؛ مثل ما يحدث في الشعر والموسيقى والعروض المسرحية التي قد تخرج بعض عناصرها عن النص بقصد أو بغير قصد، لكنه – بالتأكيد – يصب في تأهيل الممثل، ووجوده على الخشبة، وتفهمه للشخصيات، سواء في مثل عروض “ارتجاليا”، أو في العروض المسرحية العادية. ولا يخفى عن العامة الكثير من الارتجال الناتج عن خروج الممثل عن النص، وقد تقوم مسرحيات اعتماداً على قدرة الممثل في خلق حوار مع شركائه في العرض، غالباً يقوم على دعائم غير صحية، مثل التنمر والسخرية المحرجة، ونادراً ما ينجو ارتجال من هذا الشكل المهترئ تبعاً لحِرفية الممثل، ومدى قدرته على استنباط ردة فعل الجمهور الحاضر، وما يمكن أن يحقق لهم الإشباع بأنهم شاهدوا شيئاً “إضافياً” ومختلفاً، لكنه يبقى في الأخير مرهوناً بنص مكتوب وينفذ.

ومعيار قياس الإتقان في هذا العرض مختلف؛ فلن تحاكم إضاءة مسرحية، لأن الإنارة عادية لكل المكان، بحيث لا تنفصل الخشبة عن مقاعد الحضور، وبالتالي لا وجود لمسألة الجدار الرابع. كما أن الجمهور ليس متلقياً هنا؛ فهو شريك في العملية، وينتظر منه مَدّ الممثلين بأفكار واقتراحات حول المكان المحتمل والأفكار؛ ولا مؤثراً موسيقياً موجود، إلا عازف الكيبورد الذي يرتجل هو الآخر موسيقاه حسب الموقف أمامه، رغم كونه من أصحاب الهمم، ويعتمد على السمع لإحساسه بالموقف، أو عبر توجيه المخرج المباشر له. ومن الطبيعي ألا يكون هناك ديكور من أي نوع، والممثلون يعتمدون على مَدّ جمهورهم بالخيال، وإشراكهم به، وأغلب الظن أنهم محل تصديق، كما هم محل متعة بالطبع. ولولا بعض الخلل في نظام الصوت، نظراً لأن المكان المعدّ ليس مسرحاً حقيقياً، بل مقهى تقوم الفرقة باستخدام المكان لوقت العرض، ولولا مسألة ضبط الصوت، لكن المكان مثالياً من حيث المسافة الحميمية بين الخشبة والمتفرجين: شركاء العرض.

وما يستدعي الانتباه حول عنصر العرض الأساسي هم الممثلون في ارتجاليا البحرين، الذين كان عددهم ثلاثة ذكور فقط، اثنان منهما كانا في مستوى أقوى من الثالث، ربما لا يكون كذلك كل مرة، وربما الضعف يطال أي ممثل لأسباب مختلفة، لكن الأكيد أنهم قاموا بتقديم عرض مميز، بذلوا فيه – ذهنياً وحركياً – مجهوداً لا بأس به. وأغلب الظن أن من تتاح لهم فرصة الحضور والاستمتاع بهذا الخيال الكثيف، والأداء الجميل، وسريع البديهة -بالذات إن كان الممثلون قد اكتسبوا الخبرة اللازمة – سيخرجون بتجربة مغايرة عن حضورهم لعرض مسرحي عادي.

والكثرة في عروض ارتجاليا مطلوبة لأسباب كثيرة؛ منها إذكاء روح المنافسة بين الممثلين، الذين تعتمد مشاركتهم على المبادرة في سرعة التقاط الفكرة، وتنفيذها بشكل إبداعي، وضرورة تطعيم العرض بعناصر نسائية، للضرورات الدرامية والمعادلة البصرية. ومن المهم إشراك الممثلين البحرينيين/ الناطقين باللهجة البحرينية في مثل هذه العروض، التي تعبر عن المكان والبيئة. ولهذا أهميته في التأصيل، وخلق روح مختلفة ومميزة، ويمكن نسج الكثير من الثقافتين المصرية والبحرينية اللتين ستنجحان في خلق مفارقات في ما يتعلق باختلاف المجتمعين في بعض السلوكيات التي تقرب الشعوب لبعضها أكثر مما هي عليه.

إن بدا هذا إعلاناً محرراً لفرقة مسرحية خاصة، فليكن هذا من باب احترام فرادة التجربة، والإمكانيات المحدودة التي يعمل بها القائمون عليها، وإن كانت هذه طريقة مألوفة لدى البلدان التي يزدهر فيها المسرح، ويسمى العامل فيه فناناً مسرحياً محترفاً، لأنه يستغني بمدخوله الكبير في الفن عن الانخراط في أي مهنة أخرى، وقطعاً لا يحصل هذا في بلداننا، ولا لفئة فناني المسرح على وجه التحديد، وحتى التذاكر التي تحصَّل من الحضور، لا يمكن أن تغطي التكاليف الإنتاجية المتعلقة بالأجور، أو النظام الصوتي، أو إيجار المكان المقترح العرض فيه على أقل تقدير. لذلك، ما يدفع لرصد التجربة والحكم عليها، هو سعي ارتجاليا للقرب من الجمهور، وإمتاعهم بفن المسرح الجميل حسب رؤيتهم، مكوّنين قطعة جمالية أخرى تنقذ الحياة من بشاعة الواقع.