شخصية في الذاكرة

0
26

شهدت الحركة الوطنية في البحرين محطات تاريخية متميزة بُذلت فيها الكثير من التضحيات على كل المستويات، معنوياً ونفسياً ومادياً. تلك التضحيات قدّمها الكثير من شرفاء هذا الوطن، عمالاً وطلاباً ومثقفين، منذ مطلع القرن العشرين حتى الوقت الراهن، ومن بين المحطات المضيئة في تاريخنا الوطني، المتميزة بارتفاع مستوى الوعي السياسي والثوري في اوساط الكادحين والمثقفين والطلبة كانت المنتصف الثاني من القرن العشرين، حيث برز في ساحة النضال رفاق ينتمون لجبهة التحرير الوطني البحرانية منذ أن كانوا تلاميذاً في مستوى التعليم الابتدائي.

 ومن بين أولئك الرفاق المناضلين عبد الكريم محمد احمد تقي خميس من مواليد 1936، والذي ترعرع ونشأ وسط عائلة مثقفة أباً عن جد، المعروفة بعائلة بن خميس في قرية السنابس، حيث أنه بعد أن أنهى الدراسة الابتدائية التحق بالعمل بمستشفى النعيم الصحي في حقل التمريض لأنه كان بتقن الكتابة والتحدث باللغة الانجليزية. بعد ذلك انتقل إلى دائرة المالية بمهنة محاسب لفترة لا بأس بها، كان خلالها مواظباً على قراءة كتب المحاسبة إلى جانب الكتب الثقافية المتعددة، الأدبية والسياسية، مما زاد من نباهته وذكائه وادراكه للواقع البحريني، وهذا ما أهله للتعرف على أحد كوادر الجبهة، فتمّ تنظيمه بصورة سرية بعد اطلاعه على البرنامج والنظام الداخلي للجبهة وقناعته الراسخة بالانتماء الحزبي.

 أخذ يفكر في تحسين دخله، فانتقل للعمل موظفاً في المحكمة الواقعة بشارع باب البحرين بمهنة موظف، ومن هناك تمّ اعتقاله في شهر مايو عام 1968 بسبب نشاطه الثوري في أوساط الجماهير ومشاركته الفعالة في المسيرات العمالية والمظاهرات الطلابية، إضافة لإخلاصه لمبادئه التي تعلمها واقتنع بصحتها من خلال الدراسة الحزبية عبر الخلايا التنظيمية لجبهة التحرير الوطني البحرانية، وما هو جدير بالذكر أنه كان يتبرع للتنظيم بنصف راتبه الذي يتقاضاه شهريا من عمله. 

وتعرض الرفيق عبدالكريم تقي أثناء الاعتقال للتعذيب النفسي داخل القلعة وفي جزيرة جدا على يد الضابط الانجليزي شور ورئيس جهاز المخابرات هندرسون أيضاً، ومع كل ذلك كان صلباً صامداً متحدياً كل الصعوبات والعراقيل التي واجهها في الحياة. 

عندما خرج من المعتقل عام 1969 تمّ فصله من عمله في المحكمة بإيعاز من جهاز المخابرات، كما تمّ وضعه تحت المراقبة الشديدة كحرب نفسية بمضايقته في قوت يومه، إلا أن كل ذلك لم يثنيه من عزيمته في البحث عن عمل، وبالفعل حصل على عمل بمهنة موظف اداري بالمركز التجاري العراقي الواقع في بناية أوال بمنطقة المنامة .

في تلك الظروف الصعبة ظلّ الرفيق مواصلاً طريق النضال، ملتزماً بمبادئه مواكباً للأحداث السياسية، خصوصا بعد نيل البحرين الاستقلال السياسي المبتورعام 1971، وعلى ضوء الانتفاضة العمالية عام 1972 وما ترتب عليها من نتائج، كان له دور رئيسي في مواكبة المتغيرات السياسية، حتى صدور الإعلان الرسمي بتشكيل المجلس التأسيسي لمناقشة وإقرار دستور للبلاد كخطوة أولى نحو الديمقراطية، وفي تلك الظروف أصدرت القوى الوطنية برنامجاً انتخابياً للعمل الوطني، هو برنامج “كتلة الشعب”، وطرح على شعب البحرين للمناقشة، فكان الرفيق عبدالكريم أحد المساهمين في وضع ذلك البرنامج، وبالفعل تمّ ترشيح الرفيق عن الدائرة الثالثة عشربمنطقة السنابس وتوابعها في انتخابات 1973 منافسا للمرشح علوي الشرخات، ولكون مستوى الوعي آنذاك لدى الأهالي يغلب عليه الطابع المحافظ لم يحظ الرفيق عبدالكريم بأغلبية الأصوات، لكنه لم يتوقف عند ذلك الحدث، بل واصل نشاطه وسط الجماهير وزياراته المكثفة لبعض النواب، لتحميلهم مسؤولية تحقيق مطالب الطبقة الكادحة على المستوى المعيشي والسياسي، كيف لا وهو أحد المتصدين بحمل العريضة الشعبية لاسقاط مشروع قانون أمن الدولة السيء الصيت .

الطريف أنه عندما بعث للعراق في مهمة عمل أواخر سبعينيات القرن الماضي، أرادت جهة عمله ضمّه عرض لحزب البعث، فلم يبدِ موافقته على ذلك العرض بالطبع،  وعندما عاد إلى البحرين عرض عليه الأمر مرة أخرى، فأجابهم بكل صراحة ووضوح، قائلا: عندما التحقت بالعمل لديكم بعد اطلاق سراحي من المعتقل كنتم على معرفة تامة بمواقفي السياسية وانتمائي لجبهة يسارية ذات نهج ماركسي لينيني، والآن كيف تسمح لي نفسي أن أحيد عن طريقي الذي اخترته بمحض ارادتي، فاسمحوا لي برفض طلبكم هذا واتركوني للعمل فقط، وكان جوابه هذا سبباً لفصله من عمله في ثمانينيات القرن الماضي، وأصبح عاطلاً ومطارداً من قبل المخابرات، لكنه ظلّ متمسكا بحزبه ومواصلا نشاطه السياسي مع بقية رفاقه  حتى آخر نفس من حياته .

لقد غادرنا الرفيق في 2009 عن عمر 72 عاما إثر حادث مروري، غادرنا جسدا مهشما، لكن ذكرياته باقية في قلوب رفاقه ومعارفه، ذكريات نضال وتضحيات لا يمكن نسيانها،  فليبقى تاريخه الناصع جزء لا يتجزأ من التاريخ النضالي لجبهة التحرير الوطني البحرانية،  ولروحه السكينة والخلود وله الذكرى العطرة لدى رفاق دربه وأصدقائه وأهله وذويه.