هل معضلة العرب في تاريخهم الحديث والمعاصر في تعدد المذاهب والطوائف؟ وهل الدين الإسلامي يمثل استثناء في هذا التعدد والتنوع الفسيفسائي؟ وهل الحل في خروج العرب من مأزقهم هذا، بتطبيق الإسلام الحق؟ كما تطرح حركات الإسلام السياسي.
نتفق مع الإسلاميين المعتدلين بأن مشكلة التعصب الديني والمذهبي غاية في الخطورة وبأنها تهدد المجتمعات العربية في أمنها ووحدتها واقتصادها واستقرارها العام. ولكن نختلف معهم في رد هذا التعصب إلى عامل واحد، متمثل في المؤامرات التي تحاك ضد الأمة العربية الإسلامية. لا ننفي وجود هذه المؤامرات -كما يرى الكثير من الليبراليين العرب الجدد- ولكن نربطها بالسياسات العربية الرسمية الموغلة في الحفاظ على مصالحها الضيقة بالاستبداد في السلطة والثروة، وبتبعيتها الكاملة للمعسكر الغربي، وليس بفصلها وغض النظر عنها.
ومن جانب آخر لا بد من تسليط الضوء على الأسباب الأخرى (الأساسية) في استشراء ظاهرة التعصب الديني والمذهبي في مجتمعاتنا، وهي أسباب متنوعة ومرتبطة أشد الارتباط بالبنى السياسية والدينية والثقافية والتعليمية القائمة في دولنا العربية. ولا شك أن المسؤول الأول عن هذه العوامل هي سلطة الدولة ومن بعدها السلطة الدينية التي تكون في الغالب تابعة للسلطة الأولى.
يشير هادي العلوي إلى أن “الإسلام تميز عن المسيحية والبوذية، فقد تمظهر منذ البدء في دولة ومجتمع منظمين بطريقة دنيوية في تركيبه العام. فكان من الطبيعي أن يصطبغ تاريخه منذ البداية بالشقاق السياسي والاجتماعي. وفي المقابل لم يؤسس يسوع ولا بوذا دولة أو مجتمع. وقد اتجه الأول إلى تشكيل معشر شعبوي داخل المجتمع الروماني ولم يفكر بإقامة دولة. وبعد صلبه استلم الرسول بولص رسالته ليضع ديانة تحمل اسم المسيح لأنها ترتكز على نبوته ولو أنها لم تأخذ بأفكاره. وباعتناق المسيحية من جانب الملوك بعد ثلاثة قرون صارت الدين الرسمي للدولة لتنخرط من ثم في الصراعات القائمة، كطرف مع الدولة أو ضدها. أما بوذا فلم ينشئ دولة بل ديانة. وكان واعظ ديني أكثر منه قائد اجتماعي. وعاشت ديانته ثلاث قرون قبل أن تأخذ بها الدولة لتستند إليها في تمشية سياساتها الدنيوية”.
نستنتج من النص أعلاه للعلوي بأن الدين عندما يتحول إلى دولة فمن الطبيعي أن يكون تاريخه مشحون بالصراعات والانقسامات والشقاق السياسي والاجتماعي. وتاريخ الأديان ليس خارج هذا المسار من الصراعات والانقسامات، بل هو في عمقه. والدين الإسلامي لا يمثل استثناءً هنا، فالصراعات والحروب والانقسامات إلى فرق ومذاهب وطوائف وجدت في كل الأديان. على سببيل المثال لا الحصر، شهدت المسيحية صراعا شديدا بين الكاثوليك والبروتستانت، خصوصا في حرب الثلاثين عاما(1618/1648م) والتي كانت الحرب في بدايتها كصراع ديني، إلا أنها انتهت كصراع سياسي من أجل السيطرة على الدول الأخرى بين فرنسا وهابسبورغ.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا نجحت أغلب الدول الأوربية -والكثير من دول العالم- في التاريخ الحديث والمعاصر من التغلب على مشكلة التعدد في الأديان والمذاهب والأعراق، والصراع والتنافر فيما بينها، والانتقال إلى تكوين مجتمعات متنوعة قائمة على الترابط والتآخي والحرية والمواطنة المتساوية والتقدم في كافة مجالات الحياة؟ هل تحقق كل ذلك بالعودة إلى تعاليم المسيحية الأولى؟ أم اللجوء جميعهم إلى القيم الاجتماعية والسياسية الحديثة التي توفر الحلول العملية والواقعية لتعدد الأديان والمذاهب في الدولة الواحدة؟
هذه القيم التي تتمثل في: الحرية والمساواة واحترام حقوق الإنسان والمواطنة المتساوية والعقد الاجتماعي والديمقراطية والانتخابات النيابية وتداول السلطة سلمياً…، هي التي أدت إلى حدوث عملية الانتقال من الفرقة إلى الوحدة، ومن التعصب إلى التسامح، ومن ثقافة الجماعة إلى ثقافة الوطن والإنسان، من الظلام إلى النور.
لذلك لا نتفق مع الإسلاميين الذين اختزلوا الحل في القضاء على مشكلة التعصب الديني في العودة إلى ما أطلقوا عليه (تعاليم الإسلام الحق)، ويقولون في ذلك: “إن عدم الرجوع إلى الدين الإسلامي الحق سيبقي الأمة الإسلامية تعيش صراعات لا جدوى منها”. حرياً بنا القول أن اختلاف المسلمين اليوم وتصارعهم وانقسامهم إلى مذاهب وطوائف شتى، ليس بسبب الحضور السلبي للتاريخ العربي الإسلامي في حاضرهم وحسب، بل وكذلك لتعدد القراءات والأفهام لتعاليم الإسلام. فلا نعلم أي من النماذج السائدة في حاضر المسلمين، هو النموذج أو الإسلام الحق الذي على المسلمين العودة إليه لكي يوحدهم و يخلصهم من الانقسام والتعصب الديني والاستبداد السياسي والتخلف الاقتصادي والاجتماعي.
من وجهة نظرنا ليست معضلة العرب والمسلمين في تعددهم مذهبياً وطائفياً، فتلك قاعدة ثابتة في جميع الأديان، إنما معضلتهم تكمن في استمرار البنى السياسية والاجتماعية والثقافية التي تُنتج بالضرورة هذا الاستبداد والتعصب، وبالتالي استمرار العائق الذي يمنعهم من التحول إلى مجتمعات مدنية ديمقراطية تقوم على أسس المواطنة المتساوية والحريات الفردية والجماعية واحترام حقوق الإنسان وتداول السلطة ديمقراطيا وسلمياً.