ثمّة كتاب يعيشون وينتجون ويتخيلون شكل المستقبل وكأنما يعيشونه فعلاً، ولكن أن تعيشه في الواقع العملي وتنتج مخيلتك هذا الواقع الفعلي فإنه لمن العبقرية بمكان. الكاتب البريطاني جورج أورويل فعلها واستطاع أن ينجز رواية للمستقبل لا لما عايشه، أو على أقل تقدير في جزء منه. رواية 1984 هي من هذا القبيل الذي تصوّر فيه مستقبل البشرية في تلك الرواية، وهو الذي توفى في العام 1949، أي في نفس السنة التي صدرت فيها روايته.
يتولاك الفزع والرعب والخوف وأنت تتابع الأحداث وتتنقل بين السطور لتجد الواقع أمامك بكل تفاصيله، فالأخ الكبير يراقبك أينما حللت وأينما ارتحلت، لا فكاك منه وليس بمستطاعك التخلص من هذه المراقبة الدائمة، فأنفاسك محصاة وأحلامك منتقاة، وإلا ستكون في عداد الموتى إن آجلًا أو عاجلًا، وشاشة الرصد تترصدك في كل مكان، في سعيك وقيامك، في عملك أو منزلك، في راحتك أو في حضن عائلتك، لا مفر من المراقبة ولا راحة للأخ الكبير في الغفلة عنك، فحياتك في قبضة الأخ الكبير ولا مجال للمراوغة أو التملص أو التزلف أو الانزلاق لمجرى التأفف من هذا الطوق الذى يلف رقبتك، والتخلص من كل ذلك ملهاة وبقاؤك على وجه البسيطة أمر يقرره غيرك.
إذن أنت حي ميت لا محالة ولا خيار لك سوى الاستسلام لما يملى عليك، وما عليك سوى الطاعة العمياء رضيت أو لم ترض فلا خيار لديك، وعليك أن تردد بأن الحرب هي السلام، والحرية هي العبودية، والجهل هي القوة، فهي شعارات الأخ الأكبر ولا مناص من مخالفتها أو مناقشتها أو الاعتراض عليها، فشاشة الرصد تتعقبك أينما حللت، وأينما ارتحلت وشرطة الفكر تلاحقك حتى لو كنت في خرم إبرة، فهي لك بالمرصاد.
ومن أجل خلق مزيد من الخوف والرعب لابد من خلق شخصية في الظل، هي عبارة عن ظل معاكس للأخ الكبير لإلقاء كل اللوم عليها في المجتمع ولتحقيرها وجعلها ممقوتة ومنبوذة وإلصاق كل الموبقات بها لسهولة اتهام المناوئين بالتعاون معها ومن ثم سهولة الانقضاض عليهم ورميهم بالعمالة والخيانة والتجسس، فغولدشتاين هو ذاك الخائن المرتد وأحد رموز الحزب القيادية وكانت مكانته تكاد تضاهي مكانة الأخ الكبير كما يذكر أورويل.
بحثاً عن علاج لوضع المجتمع تحت وصاية الأخ الكبير أخذ ونستون سميث، وهو بطل الرواية يكتب مذكراته المناهضة لهذا الواقع وبدأ يتساءل لمن يكتب هذه المذكرات؟ أيكتبها للمستقبل أم لأجيال ذلك المستقبل؟
وحسب وصف أورويل وجد نفسه فجأة يكتب “وقد تملكته حالة من الرعب لم يكن يدرك تمامًا ما كان يفعله. كان خط يده الشبيه بخط الأطفال يميل في تعرجات إلى أعلى وإلى أسفل وقد انفصلت الأحرف الأولى والنقط وعلامات الوقف عن الكلمات.”
فالكتابة في ظل حكم شمولي مخاطرة كبرى، مصير من يتجرأ على الكتابة دون موافقة وزارة الفكر مجهول، ومع ذلك تجرأ ونستون سميث وكتب في مذكراته ليسقط الأخ الكبير ثلاث مرات وبأحرف كبيرة، وعندها تبدأ المعاناة لونستون وليصب بنوبة هستيرية، وراح يكتب أيضًا “سيرمونني بالرصاص، بيد أنني لا أبالي. سيطلقون النار علي من الخلف غير أنني لا أبالي، وليسقط الأخ الكبير”.
ففي مجتمع الأخ الكبير لا مجال للتفكير الحر ولا للإبداع أو العيش بغير النمط المرسوم لك مسبقًا وما عليك سوى الطاعة وأنت صاغرا ممجدا الأخ الكبير، مرددا شعاراته ليل نهار، مسبحًا بحمده وما أعطي لك بفضله حتى ولو إنك تعيش الكفاف محصوراً في جحر وفِي بناية آيلة للسقوط، تأكل بمشيئته وتنام وتعمل بنظامه وتفكر بطريقته.
بأسلوب ساخر وجميل وملئ بالتهكم الفلسفي والنقدي يصف جورج أورويل مجتمع الأخ الكبير من زوايا عديدة من خلال تحديث الماضي بما يجعله يتوافق والحاضر ويضيف “إن كافة تنبؤات الحزب يتسنى، وبالدليل الوثائقي، إظهارها باعتبارها صائبة. كما أن كل فقرة إخبارية أو أي ابداء لوجهة نظر تتعارض مع مجريات الحاضر كان لا يسمح لها بالبقاء ضمن أي سجلات”
فوزارة الحقيقة هي من تشرف على هذه السجلات وتراقب كل شاردة وواردة وتزود مواطني الأخ الكبير بالصحف والأفلام والكتب والروايات والمسرحيات، وبرامج شاشة الرصد، وبصورة تهكمية يضيف أورويل بأن تلك الوزارة “مسؤولة حتى عن القصيدة الغنائية إلى بحوث علم الأحياء، من كتاب التهجئة الخاص بالأطفال إلى معجم اللغة الجديدة.”
بمنتهى الدقة والتصور المستقبلي للبشرية في القرن الواحد والعشرين استشرف الكاتب في روايته هذه أحوالهم ومآلاتهم في ظل العولمة والتكنولوجيا في نسختها من الجيل الخامس ( 5g) تكنولوجيا المراقبة والتتبع والسجلات الخاصة بكل شخص لضبط سلوكياته وتصرفاته وحركته وتحركاته، فأمسى المواطن مراقبا عن بعد عبر البيانات والصور الملتقطة من قبل أجهزة المراقبة والمخزنة في تلك “السيرفرات” الضخمة ( Huge servers)، فالأفكار الواردة في هذه الرواية تكشف ما يجول في ذهن الكاتب من بعد نظر وهو الذي ما فتئ دومًا مناهضًا للدكتاتورية والشمولية والحزب الواحد ، فأمست روايته منصة للنقاش والحوارات لطبيعة الأنظمة الشمولية وما تولده من ضغط على المواطنين ضاربة بعرض الحائط حقوقهم في الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والعيش الكريم، فالإنسان بذلك لم يعد مركز الحياة بل آلة في ترس تدار من قبل الأخ الكبير لا غير.
انبرى جورج أورويل في نقده التهكمي للطريقة التي أوصل الأخ الكبير المجتمع إليها من خلال المراقبة الدائمة والمستمرة واحتكار الدولة لكل مقوّمات المجتمع مما أنتج العديد من المشاكل المعيشية والمجتمعية فيقول: “فدائماً كانت هنالك سلعة من السلع الضرورية التي لم تعد متاجر الحزب تزوّد المواطنين بها. تارة تكون الأزرار، وتارة خيطان الصوف الخاص برتق الملابس، وأخرى رابطات الأحذية، أما الآن فهي شفرات الحلاقة التي لا يمكنك العثور عليها الا باستجدائها بصورة شبه سرية من السوق السوداء.”
والخوف يخالطك أيضاً وأنت في محراب الحب والشوق إلى الحبيب، فلا يمكن كما يقول جورج الكاتب: “أن تحسّ بالحب الخالص أو الشهوة النقية، فلم تكن هنالك عاطفة نقيّة لأن كل شيء بات يخالطه الخوف والكراهية… الخ،”، فمن الطبيعي إذن وفي ظل هذا الكبت والانغلاق أن لا يستطيع الإنسان التنفس في أجواء طبيعية مما يفقده كل حواسه ويجعله مطيّة للأمراض النفسية والجسدية، فعامل الخوف مدمر ومهلك لا للجسد فحسب بل للنفس البشرية، وأدى التزوير لوقائع الحياة من خلال النظرة الأحادية إلى اللامبالاة من قبل المواطنين، مما ولدّ السلبية والقنوط وغياب الحافز للعمل المنتج وأصبح كل شيء موجهاُ ومداراً من قبل الدولة والحزب الحاكم والأخ الكبير وهو الآمر الناهي، وتبني أفكاره إذا ما اختاروا البقاء على قيد الحياة.
في هذا المجتمع، وبفعل التغييرات التي أرادها الأخ الكبير أصبح قانون البقاء مقابل قانون الولاء وتحول الإنسان الى رجل آلي “روبوت” وطقوس التطهير من هوس المعارضين سنة لابد منها كي يستطيع الأخ الكبير الاستمرار في مشاريعه الاستبدادية، وأخذ الناس إلى الخضوع وفقدان الإرادة، بالخداع الشامل وبالحجج اللازمة للتطويع وغسل الأدمغة، والتحكم في الفكر، وتشويه العقل، كما حدث مع ونستون وحبيبته جوليا، إذ قالت لهم: “إنهم لا يستطيعون التغلغل إلى كيانك”، وإذا بهما وبعد خروجهما من السجن ودون ان يشعرا أصبحا شخصيين آخرين، إذ كان يتمنى لحبيبته أن تتعذب هي “افعلوا ذلك بجوليا! افعلوا ذلك بجوليا”، بعد أن كانا قبل دخولهما السجن متعهدين بعدم ترك بعضهما، وبعد إطلاق سراحهما أصبح كل منهما ينظر إلى الآخر نظرة ملؤها الازدراء والكراهية بفعل برمجة عقليهما جراء التعذيب الوحشي الذي تعرضًا له، ونتيجة لذلك تمّ تغييرهم وبشكل منهجي إلى مجرد دمى، حيث كان الهدف من كل ذلك أن تؤدي المعاناة الجسدية والتعنيف وظيفة واحدة وهي إلحاق الأذى بالضحية، وإجبار عقله وجسده على الخضوع، ومن ثم الاستسلام لإرادة الجلادين.
فهل نحن مقبلون على وضع كهذا في ظل تحكم التكنولوجيا في البشر، عبر تحكم الدولة في هذه التكنولوجيا لتحصي عليهم أنفاسهم وتجعلهم مراقبين دوماً وأبداً وعندها تصبح رواية أوريل حقيقة واقعة لا راد لها.