الصورة النمطية السائدة للتصوف عند المثقفين والكتّاب العرب وغيرهم، تكاد تنحصر في اتجاهين، التصوف الفلسفي والتصوف الاهتيامي. لذلك تبرز بصورة لافتة شخصيات صوفية من قبيل: جلال الدين الرومي وشمس تبريزي، فيما تتوارى شخصيات صوفية هامة، مثل: إبراهيم بن أدهم وعبد القادر الجيلاني.
يأخذ التصوف عند هادي العلوي أشكال ثلاثة لا شكلين، إضافةً إلى التصوفين الفلسفي والاهتيامي، يحضر بقوة التصوف الاجتماعي، حيث يُعد من الركائز الأساسية لمشروعه الطامح في عودة المشاعية وانتصارها في الشرق. التصوف في منحاه الاجتماعي عند العلوي يتحوّل إلى نضال ومعارضة للسلطات الثلاث: سلطة الدولة وسلطة الدين وسلطة المال. ويهدف التصوف في هذا المنحى إلى تحويل الأموال الخاصة إلى أموال عامة وإجرائها في مصالح الناس اليومية بما يضمن لهم الطعام والملبس والمأوى والعلاج.
يضع العلوي تزميناً لانتهاء التصوف كنضال اجتماعي في القرن التاسع للهجرة مع عبد الكريم الجيلي وأن ما بعده كان دروشة. ويُقصد بالتصوف الدروشة الذي ينحصر في حلقات رقص فارغة لا تلامس هموم الناس ولا تعارض السلطات الثلاث من أجل تحقيق العيش الكريم للفقراء والجياع.
من هنا يلقي العلوي الضوء في كتابه (مدارات صوفية) على الأقطاب من المتصوفة دون غيرهم، فيفرد صفحات مطولة تتحدث عن حياة وفكر عامر العنبري وإبراهيم بن أدهم والحلاج والنفّري والمعري والجيلي. والقطب الصوفي يعيش في زهد وحرمان ناتج عن مسؤولية المثقف الكوني تجاه الخلق. والزهد في الأديان مفروض على العامة والخاصة معاً من حيث النظر وعلى العامة دون الخاصة من حيث العمل. أما المتصوفة فالحرمان ضريبة تُفرض على المشتغل في قضايا الناس أي أهل الثقافة وأهل السياسة. وقد أُلهموا حبّ الناس والخوف عليهم والدفاع عن حقوقهم وجعلوا ذلك من جملة المتع التي ينعمون بها حين يمارسونها.
لا يُفهم من الأسطر السابقة أن العلوي أهمل الشكلين الآخرين من أشكال التصوف، بل تحدث عن الاهتيام والتصوف الاهتيامي في (مدار الهاء) من كتابه مدارات صوفية. والتصوف الاهتيامي هو الذي يدور حول الحب والجمال إلهياً أم بشرياً ويختلف عن الاهتيام الشعري – الغزل – بالتجريد وبالجمع بين حب الكائنة البشرية المسماة امرأة وحب السماء. وفي (مدار الميم) وبالتحديد في ميم المعرفة يشير العلوي إلى أن التصوف المعرفي موجه لمعارضة سلطة الدين وتأسيس الربوبية التي تتذاهن مع السماء بلا وسائط. والتصوف كمنحى معرفة يتأوج عند البسطامي، الذي أخذ الشطح على يداه مداه الأوسع مخترقاً حجاب العقائد والمألوفات.
وعند الحديث عن سلوك المتصوفة، خصوصاً الأقطاب منهم، يُدرجهم العلوي في دائرة السلوك الروحاني، أي مذهب الفرد الاجتماعي المؤنسن بالقيم الفاضلة والمثل العليا التي تلزم المثقف لتمكنه من الدفاع عن الخلق، وهم بذلك يمثلون النقيض للفكر الروحاني القريب من الدين.
هكذا هو حضور التصوف في فكر العلوي مناضل ومقاوم للسلطات الثلاث، ويعمل على الأرض بثبات من أجل راحة الخلق ونشر الحق.