المُهرج

0
19

إيطاليا بين عدم الإستقرار والتحوّل السياسي

بقلم: Anna Bonalume

ترجمة: غريب عوض

إيطاليا هي مهد الشعبوية اليمينية المُتطرِفة التي نراها الآن في جميع أنحاء أوروبا. وذلك نظراً لأن نظام الحكم غير المستقر بشكل دائم يُوَلّد شكلاً من أشكال السياسة التي تستغل إنعدام الأمن وعدم الثقة عند الإيطاليين، بينما هو يبتسم بِخُبث طوال الوقت. كان الإنتصار الإنتخابي المُدوي الذي حققهُ حزب Fratelli d’Italia (حزب إخوة إيطاليا) بقيادة جيورجيا ميلوني في الانتخابات العامة الإيطالية في شهر أيلول/ سبتمبر بمثابة تحوّل سياسي كبير في بلد كانت تُديرهُ في السابق حكومة Mario Draghi الموالية لأوروبا. لأول مرة مُنذُ الحرب العالمية الثانية، سيحكم عضو مؤسس في الإتحاد الأوروبي حزب يميني مُتطرف لهُ جذوره في فترة ما بعد الفاشية.

إذا ألقينا نظرة على التطور الإقتصادي والسياسي في إيطاليا على مدى العقود القليلة الماضية سيُساعد في وضع نتيجة شهر أيلول/سبتمبر في سياقها الصحيح. ويتميّز المشهد السياسي والمؤسسي الإيطالي بعدم الإستقرار الهيكلي. فمُنذُ نشأة الجمهورية في عام 1946، كان لدى إيطاليا ما لايقل عن 62 حكومة من مختلف الإطياف السياسية: وهو اتجاه مُستمر حتى اليوم، حيثُ تستعد البلاد لتدشين حكومتها الرابعة مُنذُ عام 2018.

كان أحد العوامل الرئيسية في هذا الإنتقال المُتكرر للسلطة هو عملية “Mani Pulite” (الأيدي النظيفة) التي بدأت في عام 1992. سِلسِلة من التحقيقات التي كشفت عن نظام للفساد الإقتصادي وتمويل الأحزاب غير القانوني، كان للفضيحة تأثيرٌ عميق على المجتمع الإيطالي، الذي بدأ بشكل مُتزايد في رفض الطبقة السياسية بِرُمَتها. وقد زاد هذا الشعور بعدم الثقة من خلال التقدم الإقتصادي المُخيّب للآمال للغاية: فقد كان النمو الإقتصادي بطيئاً للغاية مُنذُ التسعينيات وتواجه البلاد أيضاً شيخوخة السُكان وظروف العمل غير المُستقرة بشكل مُتزايد.كما يتضح من إحصاءات المُفوضية الأوروبية، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون الإقتصادي والتنمية ، فقد أهملت الحكومات المُتعاقِبة العديد من القضايا الرئيسية: الفجوة الكبيرة في الأداء الإقتصادي بين شمال وجنوب البلاد، ومُشكلة التَهَرُب الضريبي، والمُشكلة الهيكلية. ضُعفُ القِطاع العام، ونقص الإستثمار في الإنتاج ، والبطالة بين الشباب، ونظام التعليم الذي الذي لا يرتقي إلى مُتوسط التعليم في دول الإتحاد الأوروبي في معظم المُؤشرات.

أنتج هذا الوضع أسلوباً جديداً لإدارة السياسة: الشعبوية التي جسدها سيلفيو بيرلوسكوني ، الذي كَسَبَ أول فوز إنتخابي في عام 1994. الذي كان شُعارهُ “رئيس عامل لتغيير إيطاليا”، يُصوّرُ رجُلاً كان نجاحهُ بالكامل بفضل جهودهِ الخاصة والتي تم تحقيقها على الرغم من بيروقراطية الدولة. لقد وصلت إلى الهدف مع الناخبين الذين اعتقدوا أن رجل الأعمال ذي الكاريزما القادر على خلق وظائف سيكون أفضل من المؤسسات الفاسِدة التي لم تعُد قادرة على ضمان الصالح العام.

ومُنذُ ذلك الحين، ألهمت قوة هذا النهج القادة الآخرين الذين يسعون إلى زعزعة الوضع الراهن بسرد جديد وقوة الكاريزما الشخصية الخاصة بهم Movimento 5 Stelle، الحركة المُناهِضة للمؤسسة التي أنشأها المُمثل الكوميدي Beppe Grillo في عام 2009، فازت بنسبة 25.5% من الأصوات في الإنتخابات العامة في عام 2013 وأستمرت لتُصبح القوة السياسية الأولى في البلاد، حيثُ فازت بنسبة 32% من الأصوات في عام 2018. عدو Grillo المُعلَن هو ال casta، الطبقة السياسية الفاسِدة. ويُغازل أفكارهُ المُتغيّرة والإنتهازية كُلاً من اليسار واليمين ، حيثُ اختلطت القضايا البيئية والعدالة الإجتماعية ومُعارضة حقوق المُهاجرين.

كانت حركة الخمس نجوم الأكثر نجاحاً في جنوب إيطاليا ، بينما حقق حزب Lega، وهو حزبٌ شعبوي يميني مُتطرف، أيضاً نتائج مُمتازة في ظل قيادة زعيمه اللامع ماتيو سالفيني Matteo Salvini، خاصةً في الشمال. ماتيو سالفيني عضو سابق في البرلمان الأوروبي من مدينة ميلانو ويُعرف من بين أنصارهِ بإسم “الكابتن”، أسس حملته الإنتخابية حول الهجرة والتخفيضات الضريبية والصراع المفتوح مع الإتحاد الأوروبي. وقادَ حزبهُ إلى أفضل نتائج انتخابات على الإطلاق في عام 2018 بنسبة 17.3% من الأصوات.

الوجوه الجديدة لليمين المُتطرف

عند هذهِ النقطة، تقارب مصير حزب Lega في إيطاليا مع مصير حزب التجمع الوطني في فرنسا، بعد تحالفٌ طويل بدأ عندما أنضم كِلا الحزبين إلى نفس المجموعة البرلمانية الأوروبية، “الهوية والديمقراطية” . وعلى جانبي جبال الألب، شرع المُعجبان بالرئيس الروسي بوتين في جعل حزبيهُما أكثر قبولاً للجماهير: لقد لوَح Salvini سالفيني بصليب في يدهِ لإثبات ولائِهِ للقيم التقليدية والهوية المسيحية لأوروبا، بينما حاول لوبان التركيز إلى الرعاية الاجتماعية خلال الجائحة ومن ثم القوة الشرائية في مواجهة التضخم، كانت الانتخابات الفرنسية في عام 2022 بمثابة ذروة هذهِ العملية: لدى الجبهة الوطنية الآن عدداً قياسياً من النواب (89) في الجمعية الوطنية، بينما كان لدى حزب Lega 133 نائباً مُنتخباً في عام 2018.

لكن سالفيني Salvini فقد اتجاهاتهِ مُنذُ ذلك الحين. فتضررت سمعتهُ بسبب افتقاره لضبط النفس وتناقضاته خلال الجائحة وحرب أوكرانيا، ذلك الوضع الذي استقلتهُ بِسرعة عُضوة أُخرى في الائتلاف اليميني، جيورجيا ميلوني Giorgia Meloni. حاولت ميلوني خلال حملتها الإنتخابية إخفاء خلفيتها كناشطة سابقة في حزب التحالف الوطني ما بعد الفاشية، وبدلاً من ذلك شددت على الصعوبات الإقتصادية التي تواجهها الأُسر الإيطالية وفصائل ’الأسرة الطبيعية‘. لقد تم وضع الأُسُس لإنتصارها بلا شك من خلال أسلوب سالفيني الشعبوي وخطاباتها المُثيرة للإنقسام بقدر ما كان ذلك بسبب السخط الإجتماعي الواسع الإنتشار.

كشفت المُشاركة القياسية المُنخفضة (37%) في هذهِ الإنتخابات العامة الإيطالية عن هشاشة النظام السياسي: أزمة الأحزاب، والقوانين الإنتخابية التي تُشجع على تكوين الأئتلافات، وعبادة الشخصية المُحيطة بالقادة، والمجتمع الذي تأثر بشدة بسبب التضخم، المواطنون الذين يشعرون بالإنفصال المُتزايد عن السياسة. إلى جانب هذهِ القضايا الإيطالية المُحددة، هناك أيضاً مشاكل مُشتركة في البُلدان الأخرى. كلُ هذهِ الشخصيات السياسية تصوّر نفسها على أنها أُناس عاديون، يأتي المنتقمون “لإغتيال” المؤسسة، سواء أكان اليسار أم التكنوقراط أم القطاع المالي.

ومثل سالفيني، تُقدم ميلوني Meloni نفسها كشخص عادي: فهي تؤكد على روايتها الشخصية عندم كانت طِفلة ترعرعت في مناطق الطبقة العامِلة في روما، تخلى عنها والِدُها لكنها تمكنت من سحب نفسها بواسطة خيوط حذائها (مُستعيدة قصة برلسكوني، شخصية الرجل العِصامي). يرتدي الزُعماء الشعبويون الإيطاليون الثلاثة عن عمد نفس قِناع المُهرج: يُشاهدون عروضهم التلفزيونية العديدة ، واستخدامهم المنهجي للأبتسامات والضحك مُذهل . في فرنسا ، تُحِب مارين لوبان Marine Le Pen أيضاً أن تُرى تُغني وترقص وتضحك كما في معرض باريس الدولي للزراعة أو عند زيارة المؤسسات الفرنسية الخارجية قبل انتخابات عام 2022.

تتسلل أفكار اليمين المُتطرف تحت غطاء هذهِ الوجوه المُطمئنة ، والتي تخفي الطبيعة الإستبدادية الحقيقية لسياساتها (إغلاق الموانئ في وجه المُهاجرين، والدفاع عن الأسرة الطبيعية وتقييد الحق في الإجهاض، وهو نهج “إيطالي بالدرجة الأولى”). توحي الإبتسامة غير الرسمية الودودة، والتي غالباً ما تكون مدعومة باختيار الملابس ذات الألوان الفاتحة، بوجود شخص مُتعاطف ومتشابه في التفكير يتغلب على مخاوف الشعور بالوِحدة وعدم الوضوح والمستقبل غير المؤكد . لم يَعُد هناك أي حاجز عقلاني للخوف في مواجهة غياب الأمن الدولي والمناخي، والعلاقات الشخصية غير المستقرة، وظروف العمل غير المستقرة؛ يتشكك الناس في المؤسسات ولم يعودوا يشعرون بأنهم جزء من تشكيلات المجتمع القوية. لقد تسلل القادة الشعبويون في أيطاليا وفرنسا وأماكن أُخرى إلى هذا الخوف. إن التحولات المستمرة في الحياة السياسية الإيطالية، وميل لاعبيها الرئيسيين لتغيير أماكنهم على رقعة الشطرنج السياسية، يزيد هذا الخوف. كان حزب جيورجيا ميلوني اليميني المُتطرف، مثل حزب مارين لوبان، قادراً على الإستفادة من هذا التحول.