ألم على حافة الهاوية..الاقتصاد في الخلفية

0
12

أوضاع الاقتصاد العالمي، حبلى بصواعق التفجير. وهي لذلك باتت تشكل اغراءً لا يصد ولا يرد لزمرة متزايدة من الخبراء الاقتصاديين ومتعاملي البورصات العالمية، والمختصين وغير المختصين في الشؤون الاقتصادية، وضاربي الودع، لعرض فتاواهم بشأن مآلاته التي هي سوداوية في المحصلة النهائية، من وجهة نظرهم، والتي لا تبتعد كثيراً عن الصحة بالمناسبة. 

إنما تعالوا لنعود الى الأصول، الى ما تسمى الأساسيات الاقتصادية التي طورتها أجيال متعاقبة من الاقتصاديين عبر التاريخ وصولا الى علم الاقتصاد الذي نعرفه اليوم، والذي تفرع، الى مدارس ومذاهب، بناءً على خلفيات، قليلها علمية ومعظمها أيديولوجية. فالسياسة الاقتصادية السائدة اليوم مليئة بتحريف الحقائق. من قبيل الزعم بأن “التخفيضات الضريبية للأعمال تخلق فرص عمل”، و “عدم المساواة في الدخل ستحدث دائما  لأن العمال غير منتجين، أي أن انتاجيتهم منخفضة”، وإن “التجارة الحرة تفيد الجميع”، وإن “انهيار الرهن العقاري في 2007-2008،  نتج عن تخمة المدخرات العالمية”، أو أن “الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي) مستقل عن المصرفيين والسياسيين الخواص”، وإن “الأسواق دائما فعالة”، وإن “حالات الركود ناتجة عن صدمات خارجية لنظام داخلي متوازن ومستقر”. وهكذا دواليك من الصياغات اللغوية الاقتصادية التي تتمثل وظيفتها في تبرير السياسات الاقتصادية التي تعيد توزيع الدخل والثروة على الشريحة العليا من المستثمرين ومؤسساتهم التجارية. ومن هذه “المنحوتات” اللغوية السياسية الاقتصادية يتم إنشاء مفاهيم نظرية أكثر إحكاما، مثل “منحنيات فيليبس” (Phillips Curves و”منحنيات لافر” (Laffer Curves)، التي تشمل وتدمج واحدا أو أكثر من تلك المفاهيم السياسة الاقتصادية، وتبسيطها، بغرض تسهيل “بيعها” للجمهور ووسائل الإعلام. وما هذه المنحوتات اللغوية الاقتصادية، والمفاهيم النظرية المشتقة منها، سوى “أيديولوجية اقتصادية” تتناقض مع علم الاقتصاد الذي يتعامل مع الحقائق والبيانات الامبريقية (Empirical data)، وتتوصل إلى استنتاجات تعكس بدقة تلك البيانات وتمثلها، تقريبا للواقع. في المقابل، فإن الأيديولوجيا الاقتصادية تدور حول سوء تمثيل البيانات والحقائق وبالتالي الواقع.

الاقتصاد العالمي

بحسب تقرير “الآفاق الاقتصادية العالمية” الذي أصدره البنك الدولي مؤخرا (يونيو 2022)، فإن الحرب الروسية الأطلسية على الأراضي الأوكرانية أدت إلى تفاقم الضرر الناجم عن جائحة كوفيد 19، ما أفضى إلى تفاقم التباطؤ في الاقتصاد العالمي، الذي يدخل ما يمكن أن يصبح فترة طويلة من النمو الضعيف وارتفاع التضخم المصحوب بالركود، أي الى ما يسمى الركود التضخمي ( ..الظاهرة الاقتصادية التي شهدناها في سبعينيات القرن الماضي. فمن المتوقع أن ينخفض ​​النمو العالمي من 5.7% في عام 2021 إلى 2.9% في عام 2022، أي أقل بكثير من نسبة الـ 4.1% التي كانت متوقعة في يناير. ومن المتوقع أن يراوح حول هذه الوتيرة خلال عامي 2023-2024، على أساس تعطيل الحرب في أوكرانيا للنشاط والاستثمار والتجارة على المدى القريب. سيكون مستوى دخل الفرد في الاقتصادات النامية هذا العام أقل بنسبة 5% تقريبا من اتجاهه السابق للوباء. رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس قال في تقديم التقرير: “بالنسبة للعديد من البلدان، سيكون من الصعب تجنب الركود. ولأن “الأسواق تتطلع إلى الأمام، كما يقول، لذلك فهو يدعو بقوة (لاحظ حتى في هذا الظرف العالمي الاستثنائي) الى تشجيع الإنتاج وتجنب القيود التجارية. قبل أن ينتقل الى اللغو الفارغ المبني للمجهول، بقوله “هناك حاجة إلى تغييرات في السياسة المالية والنقدية والمناخية وسياسة الديون لمواجهة سوء تخصيص رأس المال وعدم المساواة “.

لقد تطلب التعافي من الركود التضخمي في سبعينيات القرن الماضي زيادات حادة في أسعار الفائدة في الاقتصادات المتقدمة الرئيسية، ما انعكس أزمات مالية في اقتصادات البلدان النامية. المنعطف الحالي يشبه ما حدث في السبعينيات من القرن الماضي في ثلاثة جوانب رئيسية: الاضطرابات المستمرة في جانب العرض التي تغذي التضخم، مسبوقة بفترة طويلة من السياسة النقدية التيسيرية للغاية (سياسة التيسير الكمي) في الاقتصادات المتقدمة الرئيسية، والتهديد المستمر بإطاحة النمو الهش. الغريب أن البنك الدولي يحث الدول النامية عى تشديد السياسة النقدية من أجل كبح جماح التضخم، تناغما مع ما يفعله مجلس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي الذي خضع أخيرا وتحول من سياسة التيسير النقدي الى تشديد سياسته النقدية حين قرر يوم الخميس 21 يوليو 2022، ولأول مرة منذ عام 2011 رفع سعر الفائدة بواقع 50 نقطة، أي بنسبة 0.5%.

في محاولة للتهوين من الأزمة المالية (جبل الديون) والنقدية (التضخم)، يزعم تقرير البنك الدولي بأن أزمة الركود التضخمي الحالية تختلف أيضًا عن أزمة الركود التضخمي في السبعينيات، على أساس، كما يقول التقرير: أن الدولار قوي الآن، مقارنة بضعفه الشديد في السبعينيات؛ وكذلك النسبة المئوية الصغيرة للزيادات في أسعار السلع الأساسية؛ وبأن الميزانيات العمومية للمؤسسات المالية الكبرى قوية بشكل عام. والأهم من ذلك – بحسب التقرير أيضا – على عكس سبعينيات القرن الماضي، فإن البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة والعديد من الاقتصادات النامية لديها الآن تفويضات واضحة لاستقرار الأسعار. ويستكمل التقرير رسم صورته الوردية عن الاقتصاد العالمي، فيتوقع بأن ينخفض ​​معدل التضخم العالمي العام المقبل، لكنه يرجح (وهذا خط رجعة) أن يظل فوق أهداف التضخم في العديد من الاقتصادات (يقصد 2% للفدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي). لكنه سرعان ما يستدرك ويناقض نفسه بالقول، إذا ظل التضخم مرتفعا، فإن تكرار سيناريو تحول الركود التضخمي الى انكماش عالمي حاد، وارد الحدوث.

توقعات البنك بالنسبة لنمو الاقتصاد العالمي لهذا العام، تنسجم مع قراءته التدليسية لوضع الاقتصاد العالمي التي ينطبق عليها القول المصري الشعبي “كده وكده”. فهو خفض من نسبة النمو التي كان توقعها في يناير الماضي بواقع 1.2 نقطة، من 3.8% الى 2.6%، والى 2.2% في 2023. هذا تراجع كبير عن معدل النمو الذي حققه الاقتصاد العالمي في العام الماضي (5.1%)؛ لكن هذا كان بعد الخروج العالمي الجماعي من اقفالات الكوفيد والتي جاءت في صورة ردة فعل قوية متوقعة. بل إن معدلات النمو التي يتوقعها البنك الدولي للاقتصاد العالمي لهذا العام (2.2%)، ستكون معقولة ومقبولة جداً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الأخطار التي تتهدد الاقتصاد العالمي. طبعا هذا في حال تحققت وفي حال صمد الاقتصاد العالمي في وجه العواصف التي قد تتحول الى تسونامي. حينها لن تفيد البنك الدولي رطانة صياغاته اللغوية المنتقاة بعناية لعدم التشويش على تدولات قاعات القمار في بورصات الأوراق المالية العالمية (كمثال استخدامه مصطلح التباطؤ الاقتصادي “Slowdown”، تهربا من كابوس الركود الذي بات اليوم حديث عديد الأوساط الاقتصادية في العالم.

في توقعاته الجغراقية الاقتصادية، سينخفض النمو في اقتصادات البلدان النامية (بما فيها بلدان الاقتصادات الصاعدة) من 6.6% في 2021 إلى 3.4% في 2022، أي الى أقل من متوسط ​​نموها السنوي المسجل خلال الفترة من 2011 الى 2019، والبالغ 4.8%، لكنه يبقى أعلى من متوسط نمو الاقتصاد العالمي المتوقع.

صندوق النقد الدولي، هو الآخر، أعاد النظر يوم الثلاثاء 26 يوليو 2022 في توقعاته بشأن نمو الاقتصاد العالمي، وخفضها من 3.6% الى 3.2%.  

لا يستطيع تكنوقراط البنك الدولي، وهم يقترحون مرئياتهم لمواجهة تحديات الأزمة الاقتصادية العالمية الداهمة، أن يتخلوا، حتى في هذه الظروف الاستثنائية، عن دس روشتة “اجماع واشنطن”
(Washington Consensus)، وهي وصايا عشر كان قد وضعها في عام 1989، الثلاثي: صندوق النقد الدولي، ووزارة الخزانة الأمريكية والبنك الدولي نفسه. وهي روشتة تفرضها واشنطن على بقية العالم قسراً عبر آليات عمل المؤسسات الثلاث التي تتخذ من العاصمة الأمريكية مقراً لها. فهم يدعون في ختام تقريرهم، الى ضرورة امتناع صنّاع القرار عما أسموه السياسات المشوهة مثل ضبط الأسعار والإعانات وتقييد الصادرات (أي أنهم يحذرون الحكومات من مغبة تخليها عن روشتة اجماع واشنطن. فهم يقصدون بضبط الأسعار، عدم تدخل الدولة في أسواق السلع لضبط انفلات الأسعار نتيجة لتلاعبات أرباب تجارة الجملة والتجزئة. ويقصدون بالإعانات، منع الحكومات من إعادة مخصصات الدعم لموازناتها العامة، ويقصدون بتقييد التصدير، زجر الحكومات لمنعها من ضبط صادراتها ووارداتها في الظروف الاستثنائية. وهو حق كفلته لها قواعد منظمة التجارة العالمية التي تحظى الدول الرأسمالية الكبرى باليد الطولى في عملية صناعة قراراتها.

يدرك معدو التقرير ما ستنطوي عليه الأزمة المزدوجة: الركود (تراجع معدلات النمو لستة أشهر متتالية)، والتضخم، أي ارتفاع أسعار السلع الأساسية والغذائية نتيجة لارتفاع تكاليف انتاجها وتكاليف شحنها ونقلها وتأمينها. وهم لذلك ضمّنوا التقرير مناشدة خفيفة لحكومات الدول النامية بضرورة توخي الحذر في الانفاق، وإعادة جدولة أولوياته أخذا بعين الاعتبار إغاثة الفئات الهشة من السكان. كما ضمنته إشارة خاطفة الى أن يأخذ الدائنون بعين الاعتبار، تسريع عملية تخفيف الديون. فهذا آخر ما يفكر فيه نادي لندن الذي أنشأته مجموعة الدول السبع الرأسمالية الكبرى والمؤسسات المالية الدولية التي تديرها كمنصة للتفاوض بين الحكومات المدينة والبنوك الدائنة، ونادي باريس المخصص للتفاوض بين الدول الدائنة والدول المدينة.

وهم بالتأكيد لن يقاربوا موضوع الفساد الذي تلتهم اسفنجته ما يصل الى ثلث اجمالي الناتج المحلي، ولا يقاربون الثروات الخاصة المودعة في المصارف الغربية وفي ما تسمى الجنات الضريبية، والمتمتعة بمزايا السرية. هم يطالبون، كما فعل قبل أيام زملاؤهم في صندوق النقد الدولي من مصر الغاء الدعم كليا، ويريدون أن تبتعد الدولة عن الاقتصاد، وتفتح المجال للخواص، ويريدون استبعاد الجيش المصري من المشاريع والجهود التنموية التي ينهض بها في كافة محافظات البلاد. وهذا بعض مما كشفه الإعلامي وعضو مجلس الشعب المصري مصطفى بكري.