أوروبا والمصيدة الأمريكية

0
23

لا أحد يملك الحل لإخراج أوروبا من ورطتها على الإطلاق، لقد وقعت على حدّ تعبير الكاتب والباحث توفيق سلام في فخ المصيدة الأمريكية، وبين كماشتها، تعصرها لتنشف عروقها، وما من مخرج هناك يعيد تدفق حيوتها. في هذه الورطة  الاتحاد الأوروبي يكشف عن نفسه، بأنه مؤسسة هشة، وتابعا للقرار الأمريكي، إذ كيف لقارة ترتبط مع جارتها روسيا بمصالح اقتصادية وتجارية ودبلوماسية، أن توافق على عقوبات ستكون هي أول المتضررين منها.. وماذا يعني ذلك ؟

كل الإجابات التي تحتمل المنطق، هو إخفاق حتى في تبعية القرار السياسي مع متلازمة الخوف من استقلال القرار  الأوروبي.. يمكن أن يكون ذلك مجدياً بالنسبة للولايات المتحدة، لأن مصالحها مع روسيا محدودة، بينما يختلف الحال بالنسبة لأوروبا وتبعات ذلك تبدو ظاهرة في الحياة الخانقة، والمظاهرات التي تجوب شوارع باريس ولندن وألمانيا وبروكسل وغيرها.. وتتأرجح مواقف الحكومات الأوروبية من الأزمة الأوكرانية، وقد اعلن البعض نقدا صريحا لأمريكا التي باعتهم الغاز بأربعة أضعاف السعر، وأنها تستغل الأزمة لتكسب منها خصما في علاقاتها بحلفائها وتعميقا لأزمات داخل أوروبا، وزاد النقد للنرويج التي تبيع الغاز أيضا بأسعار مماثلة.

لقد حلت الكارثة حقا ومن حلفائهم، ولم تجد معها أصوات الرجاء والاستغاثة، هنا الشركات صاحبة القرار، ولا لغة تعلو فوق العرض والطلب، كما قالت النرويج.. وهنا تكمن حسرة الأوروبيين في مثل هكذا تراجيديا مأساوية، قد تقودهم إلى كوارث لا نهاية لها.. أدركت النخب وساسة أوروبا متاخرا أنهم قد تورطوا، وتعدّ ألمانيا أكبر الخاسرين فهي تعتمد على الغاز الروسي بنسبة 45%،  فقط الأن أدرك الجميع بأن مقاطعتهم لواردات الطاقة الروسية، كان خطأ إستراتيجيا قاتلا، وإن تدمير خطي أنابيب نقل الغاز الروسي في بحر البلطيق يكشف بجلاء عن المستفيد الحقيقي من وراء ذلك.

 وعندما لمس الأوروبيون أنهم وقعوا في ورطة.. بعد أن جرتهم الأوهام الأمريكية لتضخيم المخاوف من روسيا ليقعوا في هذا المنزلق السيء، وخلق اهتزازات اقتصادية وسياسية لإضعاف أوروبا واتحادها، ليصبح الدور الأمريكي له مشروعية أكثر مما سبق، وفق متغيرات جيوستراتيجية كبيرة.. كان بعض القادة الأوروبيين، يرون أنه لابد أن يكون لأوروبا جيش أوروبي موحد، ومستقل عن حلف الناتو، لكن تظل هذه مجرد أماني لا أكثر بعيدا عن الواقعية لأن الأوروبيين يختلفون حول هذه المسألة، لكنهم يلتقون حول نزعاتهم المتطرفة ضد روسيا،  بالرغم من أنها لا تشكل عليهم خطرا حتى بمقياس الخطر الصيني على مصالحهم الاقتصادية عالميا، ومع ذلك معركة الصين مؤجلة.

 الاتجاه الأمريكي يذهب نحو إطالة عمر الأزمة الأوكرانية ومعها تزيد الأزمات الأوروبية، وإطالة أمدها مقابل تعميم الدور الأمريكي في مرحلة كانت أوروبا قد تحدثت فيها سرا وعلانية  عن التخفيف من الحماية الأمريكية ومصاعفتها ماليا ومعنويا.. وفي الوقت الذي تعلن فيها أمريكا زيادة الدعم لأوكرانيا، تزداد المخاوف الأوروبية في كلفة دفع صفقات الأسلحة مع حجم انفاقها الأموال الباهظة، وكل ذلك يعمل على تدمير الاقتصادات الأوروبية، بدلا من الدعوة إلى حوار سياسي يمكن أن ينهي العمليات العسكرية، ويحقق الاستقرار، وتأخذ السياسة دورها في مناقشة كل محددات الأزمة، ووضع الحلول والمعالجات في توافق بين أطراف الحرب، لا سيما مع دعوة بوتين لكييف العودة لمائدة التفاوض، لم يقبل الرئيس الأوكراني زيلنيسكي، فهو يستجيب لما ستقوله امريكا التي تعدّ أكبر المستفيدين من الحرب.

 وإذا ما عدنا إلى التاريخ، سنجد أن الولايات المتحدة كانت أكبر المستفيدين بعد الحرب العالمية الثانية من مشروع إعادة إعمار أوروبا الذي أسمته “مشروع مارشال”، على حساب أوروبا، فضلا عن استمرارية ربط القارة الأوروبية بمصالحها الاقتصادية أمدا طويلا، إذ أن أمريكا لاقيمة لها بدون أوروبا، حتى في الجانب العسكري، فألأوروبيون تشكل نسبتهم الأكبر في عضوية حلف الناتو.

 تذهب بعض التحليلات إلى أن الأهم هو تحوّل ملموس في الرأي العام الأوروبي تجاه الحكومات ومطالبتها بوقف المساعدات لأوكرانيا، إنطلاقا من الشعور بأن الشعوب الأوروبية هي من بات يدفع الثمن . وما يعزز هذا التغيّر في مواقف الرأي العام هو انتقاله إلى المسؤولين الأوروبيين أنفسهم الذين بدأوا يعبرون عن مواقفهم الغاضبة علنا تجاه السياسة الأمريكية.

بعبارة أكبر وضوحا، في النهايةِ تيقن الأوروبيون أن الولايات المتحدة هي المستفيد الأكبر وأنهم هم من يدفع الثمن. وما زاد الطين بلة هو القرارات الأمريكية بشأن التضخم والتي تسمح بتقديم تسهيلات ومساعدات مالية كبيرة للشركات العالمية، بهدف جذب الشركات الأوروبية، خصوصاً، إلى امريكا، الأمر الذي يلحق المزيد من الضرر بالصناعات الأوروبية والاقتصاد الأوروبي الذي لم يكن قد تعافى من جائحة “كورونا”.

About the author

Author profile

كاتب بحريني وعضو التقدمي